السيرة الذاتية | الفصل الرابع | 222
(216-252)

صنع أحد النجارين غُرفة خشبية مكشوفة صغيرة وضعت بين أغصانها. فكان الأستاذ يقضي فيها اغلب أوقاته في فصلي الربيع والصيف متعبداً لله، ومتأملاً ومتفكراً حتى انبلاج الصباح في معظم الأحيان، فلا يعرف أهالي (بارلا) متى ينام الأستاذ ومتى يستيقظ! ولا يمر أحد قرب تلك الشجرة في سكون الليل الاّ ويسمع هَمْهمة العالم المُتعبّد المتهجد.
كان الأستاذ معتل الصحّة دائماً وكان قليل الإقبال على الطعام، بل يمكن القول بأنه قضى عمره كله وهو نصف شبعان ونصف جائع، إذ كان يقضي يومه الكامل بإناء صغيرة من الحساء مع كسرات من الخبز، ويأتيه طعامه من بيت أحد الجيران، وكان يدفع ثمن الطعام دائماً وبإصرار، إذ كان شعاره الذي طبّقه طوال حياته هو ألاّ يأخذ شيئاً من أحد دون مقابل، وقضى حياته كلها بالاقتصاد والبركة وعلى ما ادّخره سابقاً من الليرات.
كانت عيون السُلطة تترصّدُ الأستاذ وتُراقب حركاته وسكناته لذا كان الأهالي يتجنبون الاقتراب منه والتحدث إليه، فكان يقضي اكثر وقته في البيت او يخرج في فصلي الربيع والصيف إلى جبل (چام)(1).ويختلي هناك بنفسه في قمة الجبل وبين الأشجار متأملاً ومتعبدا.))(2)
---------------------

(1) يستغرق الذهاب من (بارلا) والصعود الى الجبل أربع ساعات من الزمان مشياً على الأقدام.
(2) T.Hayat, Barla hayatı
" خرج الأستاذ أحد ايام الصيف من بيته متوجهاً الى الجبل كعادته.. كان الجو صحواً والشمس مشرقة وما ان وصل الى قمة الجبل حتى تلبدت السماء بالغيوم السوداء منذرة باقتراب عاصفة.. وفعلاً ما لبثت السماء ان ارعدت وابرقت وبدأت الامطار تسقط بغزارة.. كان الأستاذ وحيداً على قمة الجبل ليس له من ملجأ يتقي فيه سَيلَ المطر المُنْهَمر سوى الاشجار التي لم تكن هي الأخرى كافية لتمنع عنه البَلل، وبعد مدة ليست بالقصيرة خفّت شدة المطر واخذ ينـزل رذاذاً، وأنتهز الأستاذ الفرصة وقفل راجعاً الى البلدة، وقد تبلّل من رأسه الى أخمص قدميه، وفي الطريق تمزق حذاءه، فدخل البلدة وهو يَحملُ حذاءه بيده ويغوص في الطين بجواربه الصوفية البيضاء.
وهناك بالقرب من نبع الماء كان جمع من أهالي "بارلا" مجتمعين يتحدثون، شاهدوا هذا المنظر المؤثر، منظر العالم الجليل المهيب المنفي عن موطنه.. الوحيد.. المقاطع من قبل الجميع، وهو يحمل حذاءه الممزق بيده، ويغوص في الطين بجواربه، وقد تلطخت اطراف ثيابه بالطين. خيّم سكون ثقيل على الجميع وتجاذبت الكثيرين عاطفتان مختلفتان، عاطفة الاسراع لمد يد المساعدة اليه، وعاطفة الخوف من عيون السلطة المترصدة لكل حركة من حركاته، واخيراً يندفع من بين الجمع شخص اسمه "سليمان" ويصل اليه حيث يأخذ الحذاء من يده ويغسله في الحوض ثم يرافقه حتى منـزله ويصعد معه الى غرفته.ويصبح (سليمان كروانجي) هذا اول صديق له ويتتلمذ على يديه ويقوم بخدمته ثماني سنوات في بارلا. وكان مثالاً للصدق والوفاء والإخلاص. توفي في سنة 1965 رحمه الله رحمة واسعة". ذكريات عن سعيد النورسي/32 ش/277.

لايوجد صوت