كما إن إظهار نفسك ضعيفاً تجاه حيوان مفترس يشجعه على الهجوم عليك، كذلك إظهار الضعف بالتزلف إلى مَن يحمل طباع الحيوان المفترس يسوقه إلى الاعتداء.
لذا ينبغي للأصدقاء أن يتصرفوا بحذر لئلا يَستغل الموالون للزندقة عدم مبالاتهم وغفلتهم.(2)
أنواع الظلم يحوّلها المولى إلى أنواع من الفضل
إنني أحمد الله تعالى حمداً لا أحصيه، إذ حوّل أنواع الظلم والمكاره التي جابهني بها أهل الدنيا إلى أنواع من الفضل والرحمة. واليكم البيان:
بينما كنت منعزلاً في مغارة أحد الجبال، وقد طلّقت السياسة وتجردت عن الدنيا منشغلاً بأمور آخرتي، أخرجني أهل الدنيا من هناك ونفوني ظلماً وعدواناً. فجعل الخالق الرحيم الحكيم هذا النفي لي رحمة، إذ حوّل ذلك الانزواء في الجبل الذي كان معرّضاً لعوامل تخل بالإخلاص والأمان، إلى خلوة في جبال (بارلا) يحيط بها الأمن والاطمئنان والإخلاص. وقد عزمت عندما كنت أسيراً في روسيا ورجوت الله أن أنزوي في أواخر عمري في مغارة. فجعل أرحم الراحمين (بارلا) في مقام تلك المغارة ويسّر لي فائدتها ولم يحمّل كاهلي الضعيف متاعب المغارة وصعوباتها إلاّ ما أصابتني من مضايقات بسبب أوهام وريوب كان يحملها بضعة أشخاص فيها، فهؤلاء الذين كانوا أصدقائي - وقد ركبتهم الأوهام ظناً منهم انهم يعملون لصالحي ولراحتي - إلاّ انهم بأوهامهم هذه قد جلبوا الضيق على قلبي والضرر على خدمة القرآن. وعلى الرغم من أن أهل الدنيا أعطوا للمنفيين جميعاً وثائق العودة وأخلوا سبيل المجرمين من السجون وعفوا عنهم، فقد منعوا الوثيقة عني ظلماً وجوراً، ولكن ربي الرحيم شاء أن يبقيني في هذه الغربة ليستخدمني في خدمة القرآن أكثر وليجعلني أكتب هذه الأنوار القرآنية التي سميتها (الكلمات) أكثر فاكثر، فإبقاني في هذه الغربة بلا ضجة ولا ضوضاء، وحوّلها إلى رحمة سابغة.
ومع أن أهل الدنيا سمحوا لذوي النفوذ والشيوخ ولرؤساء العشائر (من المنفيين) - الذين يمكنهم المداخلة في دنياهم - بالبقاء في الأقضية والمدن الكبيرة وسمحوا لأقاربهم ولجميع معارفهم بزيارتهم، فانهم فرضوا عليّ حياة العزلة ظلماً وعدواناً وارسلوني إلى قرية صغيرة. ولم يسمحوا لأقاربي ولا لأهل بلدتي - باستثناء واحد أو اثنين - بزيارتي. فقلب خالقي الرحيم هذه العزلة إلى رحمة غامرة بالنسبة لي، إذ جعل هذه العزلة وسيلة لصفاء ذهني وتخليصه من توافه الأمور وتوجيهه للاستفاضة من القرآن الحكيم على صفائه ونقائه.
-------------------------
(2) المكتوبات/464