السيرة الذاتية | الفصل الرابع | 227
(216-252)

واذا بنور الإيمان وفيض القرآن ولطف الرحمن يمدّنى من القوة ما يحول تلك الأنواع الخمسة من الغربة المظلمة، إلى خمس دوائر نورانية من دوائر الأُنس والسرور. فبدأ لساني يردد: ﴿حسبنا الله ونعم الوكيل﴾(آل عمران:173) وتلا قلبي الآية الكريمة: ﴿فإن تولّوا فقل حَسبيَ الله لاّ إله إلاّ هو عليه توكلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم﴾(التوبة:129).
وخاطب عقلي كذلك نفسي القلقة المضطربة المستغيثة قائلاً:
دع الصُراخ يا مسكين، وتوكل على الله في بلواك.
إنما الشكوى بلاء.
بل بلاء في بلاء، وآثام في آثام في بلاء.
إذا وجدتَ مَن ابتلاك،
عاد البلاء عطاء في عطاء، وصفاء في صفاء، ووفاء في بلاء.
دع الشكوى، واغنم الشكر كالبلابل؛ فالأزهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.
فبغير الله دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في بلاء.
فتعال، توكل عليه في بلواك!
ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وأنت مثقلٌ ببلايا تسع الدنيا.
تبسّم بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسم البلاء.
فكلما تبسّم صغُر وتضاءل حتى يزول...(1)
سلوان من القرآن بوفاة عبد الرحمن
بينما كنت وحيداً بلا معين في (بارلا) تلك الناحية التابعة لمحافظة (اسپارطة) أعاني الأسر المعذّب المسمى بالنفي، ممنوعاً من الإختلاط بالناس، بل حتى من المراسلة مع أي كان، فوق ما كنت فيه من المرض والشيخوخة والغربة.. فبينما كنت أضطرب من هذه الحالة وأقاسي الحزن المرير إذا بنور مسلٍّ يشعّ من الأسرار اللطيفة للقرآن الكريم ومن نكاته الدقيقة، يتفضل الحق سبحانه به علىَّ برحمته الكاملة الواسعة، فكنت أعمل جاهداً بذلك النور لتناسي ما أنا فيه من الحالة المؤلمة المحزنة، حتى استطعت نسيان بلدتي وأحبتي واقاربي.. ولكن -يا حسرتاه- لم أتمكن من نسيان واحد منهم أبداً وهو إبن أخي، بل إبني المعنوي، وتلميذي المخلص وصديقي الشجاع (عبدالرحمن) تغمده الله برحمته الذي فارقني قبل حوالي سبع سنوات(2)، ولا أعلم حاله كي أراسله وأتحدث معه ونتشارك في الآلام، ولا هو يعلم مكاني كي يسعى لخدمتي

-----------------------

(1) المكتوبات/29-31
(2) وذلك في سنة 1922

لايوجد صوت