السيرة الذاتية | الفصل الرابع | 228
(216-252)

وتسليتي، نعم لقد كنت في أمسّ الحاجة -ولاسيّما في الشيخوخة هذه- إلى من هو مثل (عبدالرحمن).. ذلك الفدائي الصادق.. وذات يوم وفجأة سلمني أحدهم رسالة، ما إن فتحتها حتى تبيّن لي انها رسالة تظهر شخصية (عبدالرحمن) تماماً وقد أدرج قسم من تلك الرسالة ضمن فقرات المكتوب السابع والعشرين بما يظهر ثلاث كرامات واضحة.
لقد أبكتني تلك الرسالة كثيراً ولا تزال تبكيني، حيث يبيّن فيها (عبدالرحمن) بكل صدق وجدّ أنه قد عزف عزوفاً تاماً عن الأذواق الدنيوية وعن لذائذها، وأن أقصى ما يتمناه هو الوصول إلى ليقوم برعايتي في شيخوختي هذه مثلما كنت أرعاه في صغره، وان يساعدني بقلمه السيّال في وظيفتي ومهمّتي الحقيقية في الدنيا، وهي نشر أسرار القرآن الكريم، حتى أنه كان يقول في رسالته: إبعث إلى ما يقرب من ثلاثين رسالة كي أكتب وأستكتب من كل منها ثلاثين نسخة.
لقد شدتني هذه الرسالة إلى الدنيا بأمل قوي شديد، فقلت في نفسي: ها قد وجدت تلميذي المخلص الشجاع، ذا الذكاء الخارق، وذا الوفاء الخالص، والارتباط الوثيق الذي يفوق وفاء الابن الحقيقي وارتباطه بوالده. فسوف يقوم -بإذن الله- برعايتي وخدمتي، بل حتى أنني بهذا الأمل نسيت ما كنت فيه من الأسر المؤلم ومن عدم وجود معين لي، بل نسيت حتى الغربة والشيخوخة! وكأن عبدالرحمن قد كتب تلك الرسالة بإيمان في منتهى القوة وفي غاية اللمعان وهو ينتظر أجله، إذ استطاع ان يحصل على نسخة مطبوعة من الكلمة العاشرة التي كنت قد طبعتها وهي تبحث عن الإيمان بالآخرة. فكانت تلك الرسالة بلسماً شافياً له حيث ضمّدت جميع جراحاته المعنوية التي عاناها عبر سبع سنوات خلت.
وبعد مضي حوالي شهرين وأنا أعيش في ذلك الأمل لنعيش معاً حياة دنيوية سعيدة.. إذا بي أفاجأ بنبأ وفاته، فيا اسفاه.. ويا حسرتاه.. لقد هزّني هذا الخبر هزاً عنيفاً، حتى أنني لا أزال تحت تأثيره منذ خمس سنوات، وأورثني حزناً شديداً وألماً عميقاً للفراق المؤلم يفوق ما كنت أعانيه من ألم الأسر المعذّب وألم الإنفراد والغربة الموحشة وألم الشيخوخة والمرض.
كنت اقول: ان نصف دنياي الخاصة قد إنهدَّ بوفاة أمي، بيد اني رأيت ان النصف الآخر قد توفي ايضاً بوفاة عبد الرحمن، فلم تبق لي إذن علاقة مع الدنيا.. نعم لو كان عبدالرحمن يظل معي في الدنيا لأصبح محوراً تدور حوله وظيفتي الأخروية في الدنيا ولغدا خير خلف لي، ولحلّ مكاني من بعدي، ولكان صديقاً وفياً بل مدار سلوان لي وأنس، ولبات

لايوجد صوت