السيرة الذاتية | الفصل الرابع | 229
(216-252)

أذكى تلميذ لـ(رسائل النور)، والأمين المخلص المحافظ عليها.. فضياع مثل هذا الضياع -باعتبار الإنسانية- لهو ضياع محرق مؤلم لأمثالي. ورغم أنني كنت ابذل الوسع لأتصبّر وأتحمل ما كنت أعانيه من الآلام الاّ أنه كانت هناك عاصفة قوية جداً تعصف بأقطار روحي، فلولا ذلك السلوان النابع من نور القرآن الكريم يفيض علىّ احياناً لما كان لمثلي ان يتحمل ويثبت.
كنت أذهب واسرح في وديان (بارلا) وأجول في جبالها وحيداً منفرداً واجلس في أماكن خالية منعزلة، حاملاً تلك الهموم والآلام المحزنة، فكانت تمر من أمامي لوحات الحياة السعيدة ومناظرها اللطيفة التي كنت قد قضيتها مع طلابي –أمثال عبدالرحمن- كالفلم السينمائي. فكلما مرّت تلك اللوحات أمام خيالي، سلبت من شدة مقاومتي وفتّت في عضدي، سرعة التأثر النابعة من الشيخوخة والغربة.
ولكن على حين غرّة انكشف سرّ الآية الكريمة ﴿كلُ شئٍ هالكٌ إلاّ وجههُ لهُ الحُكمُ واليه تُرجعون﴾(القصص:88). انكشافاً بيّناً بحيث جعلني أردّد: ياباقي أنت الباقي، ياباقي أنت الباقي.. وبه أخذت السلوان الحقيقي.
اجل!. رأيت نفسي بسرّ هذه الآية الكريمة، وعبر تلك الوديان الخالية، ومع تلك الحالة المؤلمة، رأيتها على رأس ثلاث جنائز كبرى كما أشرت إليها في رسالة (مرقاة السنّة):
الأولى: رأيت نفسي كشاهد قبر يضم خمسةً وخمسين سعيداً ماتوا ودفنوا في حياتي، وضمن عمري الذي يناهز الخامسة والخمسين سنة.
الثانية: رأيت نفسي كالكائن الحي الصغير جداً - كالنملة - يدب على وجه هذا العصر الذي هو بمثابة شاهد قبر للجنازة العظمى لمن هم بنو جنسي ونوعي، والذين دفنوا في قبر الماضي منذ زمن آدم عليه السلام.
أما الثالثة: فقد تجسّمت أمام خيالي - بسرّ هذه الآية الكريمة - موت هذه الدنيا الضخمة، مثلما تموت دنيا سيارة من على وجه الدنيا كل سنة كما يموت الإنسان.. وهكذا فقد أغاثني المعنى الإشاري للآية الكريمة ﴿فإنْ تَوَلوا فَقُل حَسبيَ الله لا إلهَ إلاّ هو عليهِ توكلتُ وهو ربُّ العرش العظيم﴾(التوبة:129) وأمدني بنور لا يخبو، فبدد ما كنت أعانيه من الحزن النابع من وفاة عبد الرحمن واهباً لي التسريَ والتسلي الحقيقي.
نعم لقد علمتني هذه الآية الكريمة أنه مادام الله سبحانه وتعالى موجوداً فهو البديل عن كل شئ، وما دام باقياً فهو كافٍ عبده، حيث أن تجلياً واحداً من تجليات عنايته سبحانه يعدل العالم كله، وان تجلياً من

لايوجد صوت