لنا اذاً ابداً.. وما دام سبحانه موجوداً فكل شئ لنا موجود إذن، وما دام هو موجوداً وملائكته موجودة. فهذه الدنيا إذن ليست خالية لا أنيس فيها ولا حسيس، وهذه الجبال الخاوية، وتلك الصحارى المقفرة كلها عامرة ومأهولة بعباد الله المكرمين، بالملائكة الكرام. نعم، إن نور الإيمان بالله سبحانه، والنظرة إلى الكون لأجله، يجعل الأشجار بل حتى الأحجار كأنها أصدقاء مؤنسون فضلاً عن ذوي الشعور من عباده، حيث يمكن لتلك الموجـودات ان تتكلم معنا -بلسان الحال- بما يسلينا ويروّح عنا.(1)
ألوان من الإغتراب
بقيت منذ شهرين او ثلاثة وحيداً فريداً، وربما يأتيني ضيف في كل عشرين يوماً او ما يقرب من ذلك، فأظل وحيداً في سائر الأوقات. ومنذ ما يقرب من عشرين يوماً ليس حولي أحد من أهل الجبل، فلقد تفرقوا.
ففي هذه الجبال الموحية بالغربة، وعندما يرخى الليل سدوله، فلا صوت ولا صدى، إلاّ حفيف الأشجار الحزين.. رأيتني وقد غمرتني خمسة ألوان من الغربة:
أولها: إني بقيت وحيداً غريباً عن جميع أقراني وأحبابي وأقاربي، بما أخذت الشيخوخة مني مأخذاً، فشعرت بغربة حزينة من جراء تركهم لي ورحيلهم إلى عالم البرزخ.
ومن هذه الغربة انفتحت دائرة غربة أخرى، وهي أنني شعرت بغربة مشوبة بألم الفراق حيث تركتني أكثر الموجودات التي أتعلق بها كالربيع الماضي.
ومن خلال هذه الغربة انفتحت دائرة غربة أخرى، وهي الغربة عن موطني واقاربي، فشعرت بغربة مفعمة بألم الفراق، إذ بقيت وحيداً بعيداً عنهم.
ومن خلال هذه الغربة ألقت عليّ أوضاع الليل البهيم والجبال الشاخصة أمامي، غربة فيها من الحزن المشوب بالعطف ما أشعرني أن ميدان غربة أخرى انفتحت أمام روحي المشرفة على الرحيل عن هذا المضيف الفاني متوجهة نحو أبد الآباد، فضمتني غربة غير معتادة، وأخذني التفكير، فقلت فجأة: سبحان الله! وفكرت كيف يمكن ان تقاوم كل هذه الظلمات المتراكبة وأنواع الغربة المتداخلة!.
فاستغاث قلبي قائلاً:
يا رب! أنا غريب وحيد، ضعيف غير قادر، عليل عاجز، شيخ لا خيار لي.
فأقول: الغوث الغوث. أرجو العفو، واستمد القوة من بابك يا إلهي!.
-----------------------
(1) اللمعات/349-350