قيل لك: لان الفلسفة عدِلَت عن طريق الحقيقة فأستخدمت الموجودات لأنفسها (بالمعنى الاسمى) . واما القرآن فبالحق اُنزل وبالحق نَزَل والى الحقيقة يذهب فيستخدم الموجودات بالمعنى الحرفى لا لأنفسها بل لخالقها.
فان قلت: لأي شئ ابهم القرآن واجمل في امثال ماهية الاجرام العلوية والسفلية وشكلها وحركتها على ما بيّنها الفن(1)؟
قيل لك: لأن الابهامَ أهم والاجمالَ اجمل :
فاولا: لان القرآن انما يبحث عن الكائنات استطراداً للاستدلال على ذات الله وصفاته، ومن شرط الدليل ان يكون ظاهراً وأظْهَر من النتيجة، والنتيجة معرفة ذات الله وصفاته واسمائه. فلو قال على ما يشتهيه اهل الفن: (يا ايها الناس فانظروا الى الشمس في سكونها، والى الارض في حركتها لتعرفوا عظمة قدرة خالقها)، لصار الدليل أخفى وأغمض من النتيجة وأبعد بمراتب من فهم اكثر البشر في اكثر الازمان والاعصار، مع ان حق الاكثر المطلق اهم في نظر الارشاد والهداية. فمراعاة فهمهم لاتنافي استفادة المتفلسفين المتعمقين القليلين. ولكن في مراعاة هذا الاقل محرومية الاكثر في اكثر الاوقات.
وثانيا: ان من شأن البلاغة الارشادية مماشاة نظر العموم، ومراعاة حس العامة ومؤانسة فكر الجمهور؛ لئلا يتوحش نظرهم بلا طائل ولا يتشوش فكرهم بلا فائدة، ولا يتشرد حسهم بلا مصلحة فابلغُ الخطاب معهم والارشاد: ان يكون ظاهراً بسيطاً سهلا لايعجزهم، وجيزاً لا يملهم، مجملا فيما لايلزم تفصيله لهم.
وثالثا: ان القران لا يذكر احوال الموجودات لها، بل لموجدها.. فالاهم عنده احوالها الناظرة الى مُوجدها. واما فن الحكمة فتبحث عنها لها. فالاهم عنده احوالها الناظرة الى نفسها.. فشتان ما بين الثريا والثرى.
-------------------
(1) أي العلوم الحديثة وتفصيل المسألة في الشعلة الثانية من الكلمة الخامسة والعشرين.