تقيس الناسَ بل الاسباب على نفسها، فتقسم مال الله عليها، فتعارض الاحكام الالهية، وتبارز مع مقدرات خالقها؛ مع ان الحكمة في اعطاء انانيةٍ لها، ان تصير واحداً قياسياً لفهم صفات الالوهية، فاساءت بسوء الاختيار، فصرفَتْها في غير ماوُضِعَت له..
ياايها الناظر!
ان هذه الحقيقة الدقيقة الرقيقة صارت مشهودةً لي بتمام ظهورها، فرأيت أن ما في النفس من (انا) المتنبت بماء الغفلة هو (نقطة سوداء) تصير واحداً قياسياً لِفَهمِ صفات خالقها الذي لاشريكَ له، لا في ملكه ولا في ربوبيته ولا في الوهيته.
اذ معرفة الناس للاشياء اولاً نسبية وقياسية. وتفهّم الصفات المحيطة التي لاحد لها، يحصل بتوهم الحد.
فـ(انا) يتجاوز عن حده.. فيتوهم الحدَّ، فيقيس، فيفهم.. فيرجع الى حده، فيزول الحد الموهوم.. فيصير أولاً سمكاً، وثانياً حَبابا. فقد مَرّ:
ان النفس ليست مالكة لنفسها ولالجسمها، اذ ما هو(1) لقيطة ولانتيجة تصادف، ولاشئ تافه، ولامتشكل بنفسه؛ بل هو ماكينة دقيقة عجيبة إلهية يعمل فيه في كل وقت قلمُ القدرة بيد القضاء والقدر.
فيا ايتها النفس!
تفرّغي من هذه الدعوى الباطلة، وسلمي الملك الى مالكه، وكوني امينة على هذه الامانة.
فاذا خنتِ في درهمٍ واسندتهِ لذاتك، تشرعين - بسرّ قياس النفس - تعطين من مال الله لأبناء جنسك، ثم للاسباب قناطير مقنطرة، كما
فعلته الفلاسفة.
------------------------
(1) أي: الجسم.