كان فيما غبر من الزمان أخوان ، فذهبا الى ان انقسم الطريق طريقين: في احداهما كلفة اتباع القوانين، وفي الاخرى لا كلفة في الظاهر.. فذو الخلق الحسن اختار جانب اليمين مع الكلفة الخفيفة. وذو الخلق السيئ اختار جانب اليسار مع الخفة الثقيلة، فذهب ذو الشمال فيما بين القفار الى ان دخل صحراء خالية فسمع صوتاً هائلاً، فرأى اسداً مدهشاً يهجم عليه، ففر الى ان صادف بئراً عميقاً بستين ذراعاً، فرمى نفسه فيه ، فسقط ثلاثين ذراعاً فوصل يده الى شجرة في جداره، ولها عرقان ؛ قد تسلطت عليهما فارتان بيضاء وسوداء تقطعان العرقين. فنطر فيما تحته فرآى ثعباناً عظيماً ورفع رأسه الى قرب رجله، وسعة فمه كفم البئر. ونظر في جوانبه فرآى حشرات مضرّة مؤذيةً. فنظر الى الشجرة فرآها شجرة التين، لكن اثمرت انواعاً متباينةً من ثمرات الاشجار المختلفة، فبينما ضجت لطائِفهُ من دهشة الوضعية، اذ تجاهلت نفسُه بالتغافل مع انينات لطائفه، فحسب بالمغالطة انه في بستانٍ، فبسر حديث (انا عند ظن عبدي بي)(2) هكذا ظن، فهكذا عومل. فبقى ابداً بين هذه الاهوال لا يموت ولا يحيى. فهذا المسكين بسوء فهمه لم يتفطن انه لا يمكن التصادف في هذه الامور المطلسمة.
فلنرجع ونترك هذا المشؤوم في عذابه؛ ولنذهب خلف الاخ الميمون المتيامن. فهذا يذهب مستأنساً بحسن ظنه الناشئ من حسن سيرته. انظر كيف استفاد بحسن نَظره مما لم يستفد منه اخوه، اذ صادف في طريقه بستانا فيه اثمار وازهار، مع مستقذراتٍ وميتات. فتنزَّه بالمستحسنات ولم يلتفت الى الملوثات كأخيه. ثم ذهب حتى دخل في صحراء خالية فسمع صوت الاسد الهاجم، فخاف لكن لا بدرجة اخيه، باحتمال ان الاسد مأمور سلطان الصحراء، ففر فصادف بئراً بستين ذراعاً فطرح نفسه فيه، فتعلق في نصفه بشجرة لها عرقان،
---------------------
(2) رواه البخارى ومسلم 2675 والترمذى 3538 (تحقيق احمد شاكر) وفي صحيح الجامع الصغير 4191، 4192.