كنت بين جدران مستشفى المجاذيب... ولا شك ان تأثير المحيط أمر مسلّم به. لان (ديوانه را قلم نسيت) بمعنى ان القلم رفع عن المجنون. فالأمي الجـاهل أي الحر، والكردي الذي لا يتقن التركية يمكن ان يبين مرامه بهذا القدر. والسلام.(1)
(أخذت الحيرة تستولي على الطبيب بعد سماعه هذا الكلام. فأدرك مدى جديته وسعيه الحثيث في خدمة الوطن ونـفع الاهلين في كسب المعرفة، وكيف انه في قمة الذكاء فكتب تقريراً ضمّنه بهذا الكلام: لا يوجد بين القادمين إلى استانبول من يملك ذكاءً وفطنة مثله. إنه نادرة العالم! وعلى إثر هذا التقرير حلّت الدهشة والهلع في صفوف المسؤولين في القصر، فأصدروا امراً مستعجلاً بأخذ سعيد فوراً من المستشفى إلى الموقف. وبعثوا مع وزير الأمن شفيق باشا امراً ادارياً يتضمن تخصيص مبلغ قدره ثلاثون ليرة ذهبية مرتّباً شهرياً مع مبلغ من التبرعات وذلك لاجل إبعاده عن استانبول).(2)
حواره مع وزير الأمن (شفيق باشا):
وزير الأمن: السلطان يسلم عليك، كما أمر بصرف مرتّب شهري لك بملبغ ألف قرش وقال انه سيرتفع إلى ثلاثين ليرة.
فقلت جواباً: أنا لست متسول مرتّب وان بلغ ألف ليرة، فأنا لم آت إلى هنا الاّ من اجل أمتي وليس من أجل نفسي، ثم ان ما تحاولون تقديمه لي ليس الاّ أتاوة للسكوت!
الوزير: أنت تردّ إرادة السلطان، وهذه الإرادة لا تردّ.
قلت جواباً: إنني أردّها لكي يتكدر السلطان ويستدعيني، عند ذلك أجد الفرصة لقول الحق عنده.
الوزير: ستكون العاقبة وخيمة.
الجواب: لو كانت نتيجتها إلقائي في البحر فان البحر سيكون لي قبراً واسعاً، وان نفّذ إعدامي فسأرقد في قلب الأمة. علماً بانني عندما حضرت إلى استانبول حضرتها وقد وضعت روحي على راحة كفي فافعلوا بي ما بدا
----------------------------
(1) ب/ 155-158عن آثار بديعية / 329
(2) مذكرات عبد المجيد ص 6 (ب) / 155