مرور العصور وتبدل الأحوال ورغم المحاولات الجادة لمزجهما بالنصرانية او إدماجها بهما، فلقد ظل كلٌ منهما كالماء والدهن لا يقبلان الامتـزاج، بل انهما يعيشان الآن بروحهما بأنماط متنوعة وأشكال مختلفة. فلئن كان التوأمان، مع وجود عوامل المزج والدمج والأسباب الداعية له، لم يمتـزجا طوال تلك الفترة، فكيف يمتـزج نور الهداية الذي هو روح الشريعة مع ظلمات تلك المدنية التي أساسها دهاء روما! لا يمكن بحال من الأحوال ان يمتزجا أو يهضما معاً.
قالوا: فما هي المدنية التي في الشريعة؟
قلت: أما المدنية التي تأمرنا بها الشريعة الغراء وتتضمنها، فهي التي ستنكشف بانقشـاع هذه المدنية الحاضرة، وتضع أسساً إيجابية بناءة مكان تلك الأسس النخرة الفاسدة السلبية.
نعم! ان نقطة استنادها هي الحق بدلاً من القوة. والحق من شأنه: العدالة والتوازن. وهدفها: الفضيلة بدلاً من المنفعة، والفضيلة من شأنـها: المحبة والتجاذب. وجهة الوحدة فيها والرابطة التي تربط بها المجموعات البشرية: الرابطة الدينية، والوطنية، والمهنية بدلاً من العنصرية. وهذه شأنها: الأخوة الخالصة، والسلام والوئام، والذود عن البلاد عند اعتداء الأجانب. ودستورها في الحياة: التعاون بدل الصراع والجدال، والتعاون من شأنه التساند والإتحاد.
وتضع الهدى بدل الهوى ليكون حاكماً على الخدمات التي تقدم للبشر، وشأن الهدى: رفع الإنسانية إلى مراقي الكمالات، فهي إذ تحدد الهوى وتحدّ من النـزعات النفسانية تُطمئن الروح وتشوقها إلى المعالي.
بمعنى أننا بانهزامنا في الحرب تبعنا التيار الثاني الذي هو تيار المظلومين وجمهور الناس. فلئن كان المظلومون في غيرنا يشكلون ثمانين بالمائة منهم ففي المسلمين هم تسعون بل خمس وتسعون بالمائة.
ان بقاء العالم الإسلامي مستغنياً عن هذا التيار الثاني، او معارضاً له ، ظل دون مستند أو مرتكز، وهدر جميع مساعيه. فبدلاً من الذوبان والتميع تحت استيلاء المنتصـر، كان عليه ان يتصرف تصرف العاقل فيكيّف ذلك التيار إلى طراز إسلامي ويستخدمه. ذلك لان عدو العدو صديق ما دام عدواً له، وصديق العدو عدو مادام صديقاً له.
ان هذين التيارين، أهدافهما متضادة، منافعهما متضادة، فلئن قال