السيرة الذاتية | الفصل السادسا | 314
(305-328)

لما كانت شفقة الإنسان تجلٍ من تجليات الرحمة الربانية، لا ينبغى تجاوز درجة الرحمة الإلهية والمغالاة اكثر من رحمة من هو رحمة للعالمينy، فلو تجاوزها وغالى بها فإنها ليست رحمة ولا رأفة قط، بل هي مرض روحي وسقم قلبي يفضي إلى الضلالة والإلحاد.
فمثلاً: ان الإنسياق إلى تأويل عذاب الكفار والمنافقين في جهنم، وما يترتب على الجهاد وامثالها من الحوادث -من جراء ضيق شفقة المرء عن استيعابه وعدم تحملها له- إنكار لقسم عظيم من القرآن الكريم والأديان السماوية وتكذيب له، وهو ظلم عظيم وعدم رحمة في منتهى الجور في الوقت نفسه؛ لان حماية الوحوش الكاسرة والعطف عليها، وهي التي تمزق الحيوانات البريئة، غدر عظيم تجاه تلك الحيوانات البريئة، ووحشية بالغة نابعة من فقدان الوجدان والضمير.
فالتعاطف إذن وموالاة أولئك الذين يبيدون حياة ألوف المسلمين الأبدية ويمحونها، ويسوقون مئات المؤمنين إلى سوء العاقبة بدفعهم إلى ارتكاب الذنوب والخطايا، والدعاء لأولئك الكفار والمنافقين، رحمةً بهم وعطفاً عليهم لينجوا من العقاب الشديد، لاشك انه ظلم عظيم وغدر شنيع تجاه أولئك المؤمنين المظلومين.
وقد أثبتت رسائل النور اثباتاً قاطعاً: ان الكفر والضلالة تحقير عظيم للكائنات وظلم شنيع للموجودات، ووسيلة لرفع الرحمة الإلهية ونزول المصائب والبلايا، حتى وردت روايات من ان الأسماك التي في قعر البحر تشكو إلى الله ظلم الجناة، لسلبهم راحتها.
ولهذا فالذي يرأف ويعطف على تجرع الكافر صنوف العذاب في النار، يعني أنه لا يرأف ولا يعطف على أبرياء لا يحصيهم العد ممن هم أليق بالرأفة وأجدر بالعطف بل ولا يشفق عليهم، بل يظلمهم ظلماً فاضحاً.
ولكن هناك أمر آخر وهو:
ان البلاء عندما ينزل بالمستحقين له، يُبتلى به الأبرياء ايضاً. وعندها لا يمكن عدم الرأفة بهم. الاّ ان هناك رحمة خفية لأولئك الأبرياء المظلومين الذين تضرروا من ذلك البلاء النازل بالجناة.
ولقد كنت -في وقت ما في الحرب العالمية الأولى- أتألم كثيراً من المظالم والقتل الذي يرتكبه الأعداء تجاه المسلمين ولاسيما تجاه أطفالهم وعوائلهم، وكنت أتعذّب عذاباً يفوق طاقتي -لما فيّ من شفقة مفرطة ورأفة متزايدة- وحينها ورد على القلب فجأة الآتي:

لايوجد صوت