يعود اليها طليقاً يحف به بعض ثمار دعوته.. طلاب يتلألأ النور في جباههم المضيئة، وتطفح قلوبهم بحب الله ورسوله.
ويسمع أهل البلدة بقدوم الأستاذ، فيخرجون رجالاً ونساءً، واطفالاً وشباباً لرؤيته. ويقفز الاطفال الصغار وهم يرددون:
جاء الشيخ.. جاء الشيخ!
انهم لم يروا هذا الشيخ الوقور، ولكنهم سمعوا عنه من آبائهم وامهاتهم.
وبينما كان الأستاذ يتقدم نحو البيت الذي بقي فيه ثماني سنوات، إلى البيت الذي كان اول مدرسة نورية، مرّ من امام بيت تلميذه القديم (مصطفى چاويش)(1) وهو النجار الذي عمل له الغرفة غير المسقّفة بين اغصان الشجرة التي كان يقضي فيها ساعات العبادة والتأمل.
مرّ امام دار تلميذه ورأى القفل الكبير على باب الدار. كان تلميذه القديم الوفي قد توفي سنة 1937، بينما كان الأستاذ يعيش في منفاه في (قسطموني). مات هذا الرجل ولذلك لم يتيسر له لقاءه بعد خروجه من بارلا. ولم يشعر الا والدموع تتساقط من عينيه وتبلل خده.
واخيراً وصل إلى بيته السابق، إلى مدرسته الأولى حيث كانت شجرته الحبيبة تنتصب امامه وكأنها -هي الأخرى- ترحب به.. جاشت في نفسه العواطف وطلب من طلابه ومن الأهالي ان يتركوه وحده.
ثم ذهب إلى تلك الشجرة التي قضى معها اكثر من ثماني سنوات احتضنها وأجهش ببكاء طويل.
كانت هذه الشجرة قطعة من حياته، ومن ذكرياته. كم من ليال قضاها بين اغصانها يتهجد ويذكر الله! كم من ساعات قضاها يؤلف رسائل النور ويسمع حفيف اغصانها واوراقها وتغريد الطيور عليها. كم من ليلة من ليالي الشتاء الطويلة الحالكة أرق في غرفته، فلم يكُن له أنيس في وحدته غير صوت هذه الشجرة تعصف بها الرياح، او يسمع صوت قطرات الامطار على اوراقها. لقد كانت له انساً في وحدته، وسلوة في وحشته، وصديقاً في غربته.
وها هو الآن يرجع اليها بعد عشرين عاماً يتحسسها، ويريد ان يضمها إلى صدره ولا يتمالك نفسه من البكاء عند لقائها.
---------------------
(1) اللمعات/76