بعد هذا التقيت الأستاذ في إسپارطة وقال لي:
- لا تعطي الرسالة لأي شخص كان الا بعد معرفته معرفة جيدة، فكما لا يُعطى الحصان اللحم فلا يعطى الأسد العشب. بل أعط الحصان العشب والاسد اللحم، فان لم يطلب منك أحد رسائل النور عدة مرات فلا تعطها له فنحن لسنا ببائعي كتب. بل نعطي الرسالة إلى من يشعر بالحاجة الماسة إليها، والمتلهف لها.
هكذا كان الأستاذ ينبهنا دائماً على الأخذ بالحيطة والحذر في مثل هذه الأمور)).(2)
الإيمان اولاً:
يروي الأستاذ (علي اوزك)(1)
((عندما قدمت إلى استانبول من مصر وأنا مازلت طالباً في الأزهر الشريف، استفسرت عن الأستاذ النورسي، فوجدته ساكناً في منطقة (الفاتح) في بيت خشبي قديم، ولدى زيارتي له في غرفته رأيته متمدداً على فراشه -من المرض- سلمت عليه، فرد السلام، ولكن حينما أخبرته بان الشيخ مصطفى صبري(2) يخصك بالسلام، جلس وعدل نفسه وقال بتقدير واكبار:
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. وماذا يقول الأستاذ مصطفى صبري؟
- سيدي الأستاذ يسأل الشيخ مصطفى صبري عن عدد طلابكم!
- لي خمسمائة ألف طالب وخادم للقرآن الكريم!
- يقول الشيخ مصطفى صبري.. إذن ماذا ينتظر؟ ولماذا لا يبدأ بجهاد إسلامي مع هذا العدد من طلابه؟
- بلّغ سلامي له أولا، ثم قل له:
(ان دعوتنا هي الإيمان، والجهاد يلي الإيمان، وان زماننا هذا هو زمان خدمة الإيمان ووظيفتنا هي الإيمان وخدمتنا تنحصر في
الإيمان..).
ثم تكلم بإسهاب عن موضوعات إيمانية، وعن كيفية القيام بخدمة الإيمان، وعندما أردت المغادرة قام ليودعني فقبلت يده وودعته.
ولما رجعت إلى مصر، زرت الشيخ مصطفى صبري، وكان طريح الفراش، وقد أنهكه المرض وأدركته الشيخوخة، حدثته عما دار بيني وبين الأستاذ النورسي في تركيا، فاستمع لي جيداً. ثم قال:
- حقاً ان الأستاذ النورسي هو المحق، نعم ان ما قاله صدق وصواب، فقد وفقه الله في مسعاه، أما نحن ، فقد أخطأنا، حيث ثبت هو في البلاد ونحن غادرناها.
وهكذا استصوب مصطفى صبري عمل بديع الزمان وقوله)).
كرامة الحقائق الإيمانية:
((لقد بدأت افهم سبب حدوث كرامات لبديع الزمان من خلال الحوادث التي مرت.
فالسبب الأول هو:
ان بديع الزمان كان خادماً للإسلام وفي ظروف صعبة وعصيبة جداً وتحت شروط صارمة لا تسمح لخدمة الإسلام بل يمكن القول انها ظروف يستحيل فيها العمل للاسلام. ولكي تستمر وتدوم هذه الخدمة فقد اقتضت الحكمة الإلهية ان تظهر على يده هذه الكرامات.
أما السبب الثاني: فهو
ان تعلم الإسلام في تركيا اصبح غير ممكن او مستحيل (طوال ربع قرن اعتباراً من العشرينات إلى سنة 1950) وعدم التعلم هذا يؤدي حتماً إلى انعدام الحياة المعنوية. فحقاً ان أهل الضلالة في تلك الظروف كانوا يحقرون ويستهينون بالإسلام والمسلمين. فشخصية كبديع الزمان وهو يعاني الغربة والشيخوخة والفقر ان لم تكن له كرامات فمن ذا يرتبط به ولماذا؟
-----------------
(2) ذكريات/94 Son Şahitler 4/154 من أحمد گوموش
(1) ذكريات/95 Son Şahitler 4/441 وهو استاذ اللغة العربية وعميد المعهد الإسلامي العالي في استانبول، له مؤلفات قيمة في اختصاصه.
(2) هو آخر من شغل منصب “شيخ الإسلام” للدولة العثمانية، له مؤلفات قيمة باللغة العربية منها: (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين) ترك تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية. سكن في مصر وتوفي هناك سنة 1945 عن عمر يناهز الخامسة والثمانين رحمه الله رحمة واسعة.