والفلسفة في الاذهان، لايمكن لمن كان في ذكاء (سفيان بن عيينه)(2) مثلا ان يحصل الاجتهاد الا بعشرة امثال وقت ماحصل سفيان الاجتهاد فيه. اذ ان سفيان يبتدئ تحصيله الفطري من حيث التمييز. فيتهيأ استعدادهُ كالكبريت للنار. واما نظيره الآن - فبسر مامرّ آنفاً- يتباعد استعدادهُ بدرجة تبحّره في الفنون الحاضرة ويتقاسى عن قبول الاجتهاد بدرجة تغلغله في العلوم الارضية..
ورابعاً: ان ميل التوسيع والاجتهاد ان كان من الداخلين بحق في دائرة كمال الاسلام بمظهرية التقوى الكاملة وامتثال الضروريات، يكون ذلك الميل كمالاً وتكملاً. واما ان كان ممن يهمل الضروريات ويرجّح الحياة الدنيوية على الآخرة يصير ذلك الميل ميلَ تخريبٍ، ووسيلةً لحل ربقة التكليف عن عنقه..
وخامساً: ان المصلحة حِكمة مرجّحة، وليست بعلّة للحُكم. ونظرُ هذا الزمان يصيِّر المصلحة علّة للحكم. وكذا نظرُ هذا الزمان يتوجه أولاً وبالذات الى السعادة الدنيوية، مع ان نظر الشريعة متوجه أولاً وبالذات الى السعادة الاخروية، وثانياً وبالعرض الى الدنيا من حيث هي وسيلة الآخرة.. وكذا ان كثيراً من الامور التي ابتلي الناسُ بها، وعمّت البليةُ بها حتى صارت من (الضروريات) ؛ فلتولدها من سوء الاختيار، ومن الميول الغير المشروعة (لاتبيح المحظورات) ولاتصير مداراً لاحكام الرّخصية. كما ان مَن سَكر بشرب حرامٍ لايُعذر في تصرفاته في حالة السُكر.. وهكذا فالاجتهادات بهذا النظر في هذا الزمان تصيرُ ارضية، لاسماويّة. فالتصرف في أحكام خالق السموات والارض وفي عباده بلا إذنه مردود.
---------------------
(2) ولد في الكوفة سنة 107هـ توفي سنة 198هـ بمكة المكرمة. كان اماماً عالماً ثبتاً، حجة زاهداً ورعاً مجمعاً على صحة حديثه وروايته، حج سبعين حجة، ادرك نيفاً وثمانين نفساً من التابعين. روى عن الزهرى والسبعي وابن المنكدر وابي الزناد وعاصم المقرني والاعمش وعبدالملك بن عمير وغير هؤلاء من اعيان العلماء. وروى عنه الامام الشافعي وشعبة ومحمد بن اسحاق وابن جريح وابن بكار وعمه مصعب والصنعاني ويحيى بن اكثم وخلق كثير رضي الله عنهم (باختصار عن وفيات الاعيان لابن خلكان 2/391 - 393).