ورابعا: لابد ان تفيدك رؤية صغار الهوام وضوح برهان المخلوقية التامة، والمصنوعية العامة في كل شئ للصانع الواحد. وتُكْبِرَ في نظرك هذا البرهان بدرجة صغرها(1)، وتُظهر بدرجة خفاها(2)؛ اذ من المحال ان يخرج المحاطُ من دائرة تصرف خالق المحيط، فخالقُهُ هو خالقُه بالضرورة القطعية. إلا ان الصنعة فيها ابتلعت المادة وغمرتها، خلافا للمصنوعات الكبيرة.
اعلم ! ايها الغافل ان اكثر وسوستك انما تنشا من امور اربعة:
فاولا: من نسيانك نفسَك الى درجة تنقلب شعرةُ الانانية حبلاً غليظاً؛ لانك لما نسيت الله بالهوى، فأنساك نفسك، تغلظتْ انانيتك فتفسّقت مِن قشرها المتشقق بكبرها.
وثانيا: من قياس كل ذي حياة على نفسك.. مثلا: اذا رأيت حيوانا فمع ان المشهود حيوان معصوم، مأمون، ممنون؛ تفرضه انساناً متفكراً محزوناً متشتت الخواطر.. فتظن رقصه في فرح ؛ اضطراباً في ترح.
وثالثاً: من قِصَر نظرك على تجلّي اسم الظاهر فقط، حتى تتوهم ان ما خرج عن دائرة هذا الاسم لا يرجع الى دائرة مسماه. كلا ان المسمى الذي له الاسماء الحسنى، كما انه هو فوق الفوق، فهو في ابطن البطون فهو الاول والآخر و الظاهر والباطن.
ورابعاً: مِن طلب تجلي الاحدية التي هي اعلى التجليات، وابعدها واخفاها، وابسطها في اوسع واكثر وارق ما انبسطت اليها الكثرة وانتشرت ؛ اذ تنظر الى حيوان مثلا: فتفنى فيه بالقياس النفسي المار آنفاً، فتدخل معك فيه انواع حسياتك. مثلا: تتصوره مثلك حزينا لفراق أليفهِ او وطنهِ، ومغموما بالتفكير في عاقبته ورزقه. فتتألم لمرض الشفقة من آلامه الموهومة، مع انك لو دخلت في عالمه
------------------------
(1) اي صغر المصنوعية والمخلوقية.
(2) اي رغم خفائها.