وهكذا، حتى لو لم يطابق رأيُ المتكلمين الواقعَ، مع مطابقة الحس العمومي، والتعارف العام لما ضرَّهم، ولا استحقوا التكذيب(1).. فلهذا يُرى آراؤهم بادي الرأي ؛ اضعف وادنى طبقةً في المسائل الفلسفية، واقوى من الحديد في اساسات المسائل الالهية..
ومن هذا السر ايضا تصير الغلبةُ في الاكثر في الاوائل في الاولى لاهل الضلال، فيما يعود الى الدنيا، والى ظاهر هذه الحياة. اذ هم بجميع لطائفهم الساقطة الى درجة نفوسهم، متـوجهون قصدا وبالذات الى الدنيا قائلون بـأعمالهم: ﴿ان هي الا حياتنا الدنيا﴾(الانعام:29) ولكن العاقبة للمتقين الذين قيل لهم ولسيدهم: ﴿وللآخرةُ خَيْرٌ لَكَ مِن الاولى﴾(الضحى:4) ﴿وما الحَيَاةُ الدنيا الا لَعِبٌ ولَهْوٌ ولَلَدارُ الاخِرةُ خَيْرٌ لِلَّذين يَتَّقُونَ افلا تعقلون﴾(الانعام:32) ﴿وانَّ الدَّار الآخِرةَ لَهِيَ الحَيوانُ لوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(العنكبوت:64) فحسبنا الله ونعم الوكيل، فنعم المولى ونعم النصير..
اعلم! ان عفوه تعالى فضل، وعذابه عدل؛ اذ كما ان من اكل سمًّا، فهو مستحق للمرض بحكم عادة الله المستمرة. فان لم يمَْرض، فهو فضل وكرامة من الله بخرق العادة.
نعم، مناسبة المعصية للعذاب قويةٌ بدرجة من القوة، حتى ضلّت فيها المعتزلة فاسندوا الشرَّ الى غيره تعالى، واوجبوا الجزاء عليه. واستلزام الشر للعذاب، بسر النظام العام لا ينافي كمال الرحمة ؛ اذ هذا الضرر الجزئي متصلٌ بانبوب في سلسلة نظام محيط، تدلت منه كالعناقيد خيراتٌ كثيرة. مع ان ترك هذه الخيرات الكثيرة لمنع هذا الضرر الجزئي والشر القليل، ضررٌ كلي، وشر كثير. وهو ينافي حكمةَ عدالة العدل، الحكيم، الكريم.
-----------------
(1) لانهم لم يذكروا الرأي إلاّ للاستدلال والاستطراد