السيرة الذاتية | الباب الثاني | 168
(150-183)

ولا ضياء ولا ماء. كل ذلك مفقود.
توهمت أن الأرض ملأى بالوحوش والضواري والحيوانات الضارة. فخطر على قلبي ان في الجهة الأخرى من الأرض يوجد نسيم عليل وماء عذب وضياء جميل، فلا مناص اذاً من العبور إلى هناك.. ثم وجدتني وأنا اُساق إلى هناك دون إرادتي.. دخلت كهفاً تحت الأرض، أشبه ما يكون بأنفاق الجبال، سرتُ في جوف الأرض خطوة خطوة وأنا أشاهد أن كثيرين قد سبقوني في المضي من هذا الطريق تحت الأرض، دون أن يكملوا السير إذ ظلوا في أماكنهم مختنقين، فكنت أرى آثار أقدامهم، وأسمع - حيناً - أصوات عددٍ منهم .. ثم تنقطع الأصوات.
فيا صديقي الذي يرافقني بخياله في سياحتي الخيالية هذه!
ان تلك الأرض هي (الطبيعة) و(الفلسفة الطبيعية). أما النفق فهو المسلك الذي شقه أهل الفلسفة بأفكارهم لبلوغ الحقيقة. أما آثار الأقدام التي رأيتها فهي لمشاهير الفلاسفة كأفلاطون وارسطو(2). وما سمعته من أصوات هو أصوات الدهاة كابن سينا و الفارابي.. نعم كنت أجد اقوالاً لإبن سينا وقوانين له في عدد من الأماكن، ولكن كانت الاصوات تنقطع كلياً، بمعنى انه لم يستطع ان يتقدم، أي انه اختنق..
وعلى كل حال فقد بينت لك بعض الحقائق الكامنة تحت الخيال لأخفف عنك تلهفك وتشوقك.. والآن أعود إلى ذكر سياحتي:
استمر بي السير، واذا بشيئين يجعلان بيدي.
الأول: مصباح كهربائي، يبدد ظلمات كثيفة للطبيعة تحت الأرض.
والآخر: آلة عظيمة، تفتت صخوراً ضخمة هائلة أمثال الجبال فينفتح لي الطريق.
وهُمِس في أذني آنذاك: ان هذا المصباح والآلة، قد منحتا لك من

--------------------

(2) وإن قلت: فما تكون انت حتى تنازل هؤلاء المشاهير؟ فهل اصبحت نظير ذبابة حتى تتدخل في طيران الصقور؟ وانا اقول: لما كان لي أستاذ أزلي وهو القرآن العظيم، فلا أراني مضطراً أن أبالي -ولو بقدر جناح ذبابة- في طريق الحقيقة والمعرفة، باولئك الصقور الذين هم تلاميذ الفلسفة الملوثة بالضلالة والعقل المبتلى بالاوهام. فمهما كنت أدنى منهم درجة إلا ان استاذهم ادنى بدرجات لاحد لها من استاذي، فبفضل استاذي وهمته لم تستطع المادة التي اغرقتهم ان تبلل قدمي. نعم! ان الجندي البسيط الحامل لأوامر سلطان عظيم وقوانينه، يمكنه ان ينجز من الاعمال مالا ينجزه مشير لدى ملك صغير.(المؤلف).

لايوجد صوت