داخلاً في عداد الجامعين بين الطريقة والحقيقة. وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدها -كأكثر أهل الطريقة- بل جهد كل الجهد اولاً لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثتها إيّاه مداومة النظر في كتب الفلاسفة.
ثم أراد -بعد أن تخلّص من هذه الأسقام- ان يقتدي ببعض عظماء أهل الحقيقة، المتوجهين إلى الحقيقة بالعقل والقلب، فرأى ان لكلٍ من أولئك العظماء خاصيّة جاذبة خاصة به، فحار في ترجيح بعضهم على بعض.
فخطر على قلب ذلك السعيد القديم الممخض بالجروح - ما في مكتوبات (الإمام الرباني) من أمره له غيباً: (وحِّد القبلة) أي أن الأستاذ الحقيقي إنما هو القرآن ليس إلاّ، وان توحيد القبلة إنما يكون بأستاذية القرآن فقط، فشرع بإرشاد من ذلك الأستاذ القدسي بالسلوك بروحه وقلبه على أغرب وجه، واضطرته نفسه الأمارة بشكوكها وشبهاتها إلى المجاهدة المعنوية والعلمية.
وخلال سلوكه ذلك المسلك ومعاناته في دفع الشكوك، قطع المقامات، وطالع مافيها، لا كما يفعله أهل الاستغراق مع غض الأبصار، بل كما فعله الإمام الغزالي والإمام الرباني وجلال الدين الرومي، مع فتح أبصار القلب والروح والعقل، فسار فيها -أي في المقامات- ورأى ما فيها بتلك الأبصار كلها، منفتحةً من غير غضٍ ولا غمض. فحمداً لله على ان وُفِّق على جمع الطريقة مع الحقيقة بفيض القرآن وارشاده، حتى بيّن برسائل النور التي ألفها (سعيد الجديد) حقيقة:
وفي كل شئ له آية تدل على أنه واحد
لقد كان في سياحته وسلوكه ذلك السلوك في تلك المقامات، ساعياً بالقلب تحت نظارة العقل، وبالعقل في حماية القلب كالإمام الغزالي والأمام الرباني وجلال الدين الرومي. فبادر إلى ضماد جراحات قلبه وروحه، وخلّص نفسه من الوساوس والأوهام. وبخلاصه منها انقلب سعيد القديم إلى سعيد الجديد، فألّف بالعربية ما هو بحكم المثنوي الشريف -الذي هو أصلاً بالفارسية- رسائل عدة في أوجز العبارات. وكلما سنحت له الفرصة أقدم على طبعها، وهي: (قطرة، حباب، حبة،