حقيقة لها ولا لذة فيها، بل لا خير في عقباها. وله الحمد أن وفقني كذلك لأجد الشيخوخة خفيفة الظل أتنعم بدفئها ونورها بخلاف ما يراه أهل الغفلة من ثقل وبرودة.(1)
ففي بداية شيخوختي ومستهلها، ورغبة منّى في الانزواء والاعتزال عن الناس، بحثَت روحي عن راحة في الوحدة والعزلة على (تل يوشع) المطل على البسفور.(2) فلما كنت - ذات يوم - اسرح بنظري إلى الأفق من على ذلك التل المرتفع، رأيت بنذير الشيخوخة لوحة من لوحات الزوال والفراق تتقطر حزناً ورقة، حيث جُلتُ بنظري من قمة شجرة عمري، من الغصن الخامس والأربعين منها، إلى أن انتهيت إلى أعماق الطبقات السفلى لحياتي، فرأيت أن في كل غصن من تلك الأغصان الكائنة هناك ضمن كل سنة، جنائز لا تحصر من جنائز أحبابي وأصدقائي وكل مَن له علاقة معي. فتأثرت بالغ التأثر من فراق الأحباب وافتراقهم، وترنمت بأنين (فضولي البغدادي)(3) عند مفارقته الأحباب قائلاً:
كلما حنَّ الوصال عَذبٌ دمعي مادام الشهيق
لقد بحثتُ من خلال تلك الحسرات الغائرة عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أسلّى بها نفسي. فإذا بنور الإيمان بالآخرة يغيثني ويمدّني بنور باهر. انه منحني نوراً لاينطفئ ابداً، ورجاءً لا يخيب مطلقاً.(4)
وعلى (تل يوشع) المطل على البسفور باستانبول، عندما قررت ترك الدنيا، أتاني أصحاب أعزاء، ليثنوني عن عزمي
ويعيدونني إلى حالتي الأولى، فقلت لهم: دعوني وشأني إلى الغد، كي استخير ربي. وفي الصباح الباكر خطرت هاتان اللوحتان إلى قلبي، وهما شبيهتان بالشعر، الاّ انهما ليستا شعراً، وقد حافظت على عفويتهما وأبقيتهما كما وردتا لأجل تلك الخاطرة الميمونة...
-------------------
(1) اللمعات/ 372
(2) اتخذ دعاء "الجوشن الكبير" و"الاسم الأعظم" ورداً له في تل يوشع. ب/882 عن لمعه لر عثمانية.
(3) فضولي البغدادي شاعر عاش في القرن السادس عشر الميلادي وهو مؤسس الادب العثماني الآذري، له اشعار ودواوين في اللغات التركية والعربية والفارسية توفي سنة 1555م، من اعماله المشهورة "ليلى ومجنون" اسمه الحقيقي: محمد.
(4) اللمعات/ 347