وتعتبر أعواد المشانق ومنصة الإعدام محافل وعظه وكراسي إرشاده، فيلقي من فوقها دروس الصبر والثبات والمتانة والرجولة للإنسانية في سبيل غاية سامية. وتنقلب المعتقلات مدارس يوسفية، يدخلها كما يدخل الأساتذة الجامعات لإلقاء الدروس، لأن الموجودين فيها من المسجونين يعدّون تلامذة محتاجين إلى فيضه وإرشاده، ويعتبرُ إنقاذ بضع من المواطنين وإدخالهم إلى حظيرة الإيمان وجعل بعض الجناة انساناً كالملك سعادةً لا تستبدل بشئ من متاع الدنيا الزائلة.
وإنسان يحمل في قلبه مثل هذا الإيمان والإخلاص ويستشعره في كينونته كل آن، لابد أنه يدع تأثيـر البريق الكاذب الذي يستخلفه مفهوما الزمان والمكان على أبناء الفناء القاصرين العاجزين في عالم الـمادة الكثيف فينطلق بروحه إلى العالم المعنوي الشاسع آفاقه الفياض بالنور والهدى. وإن ما يسميه ويصفه كبار أقطاب الصوفية من المرتبة الكبـرى من الفناء في الله والبقاء بالله، ليست هي الاّ نيل هذا الشرف السامي العظيم.
أجل إن لكل مؤمن حالاً يخصّه من الطمأنينة والحضور والخشوع والتجرد والفيض والإستغراق، والكل ينهل بقدر إيمانه وعلمه وتقواه وبنسبة إستفاضته من هذه السكينة الإلهية. ولكن هذا الحال الندي بجماله، والوصال العذب بطراوته وهذه السكينة الفريدة بجدتها دائمة النـزول على أرباب الإحسان، أولئك المجاهدون العظام المذكورون في الآية الكريمة السابقة. لذا فإنهم لا يقعون في غفلة نسيان المولى الكريم، فيبارزون ويصارعون كالأسود الضواري أنفسهم الأمارة بالسوء طوال حياتهم، وكل لحظة من لحظات عمرهم تسجل أروع ذكريات التكمل والترقي. فإنـهم ينصهرون بكل موجوديتهم وديمومتهم في رضا رب العالمين المتصف بصفات الجمال والجلال والكمال.
لقد بحثنا آنفاً عن عظمة إيمانه الذي ينجذب إليه الأحباب، ويرتعد منه الأعداء، فينبغي البحث أيضاً عن شخصيته ومزاياه وأخلاقه وكمالاته المحيطة به كهالة من نور.
وكما هو معلوم أن لكل عظيم ميّزات معينة تحيط به وله سمات خاصة تميّزه عن غيره، والأستاذ النورسي أيضاً في تكوين شخصيته