تهدئته الحمالين:
توجستُ خيفة من ان يُلوّث صفاء القلوب لدى الولايات الشرقية، فيستغل بعضُ دعاة الأحزاب أبناء بلدي الذين يقرب تعدادهم عشـرين ألف شخص، حيث إنهم يعملون بالحمالة وهم ذوو نفوس طيبة ساذجة غافلة. فتجولت جميع الأماكن والمقاهي التي يتواجد فيها الحمالون، وبينت لهم المشروطية في السنة الماضية بقدر ما يستوعبونه. فقلت لهم بهذا المعنى:
إن الإستبداد ظلم وتحكم في الآخرين، أما المشروطية فهي العدالة والشريعة. فالسلطان إذا ما أطاع أوامر سيدنا الرسول الكريمy وسار في نهجه المبارك فهو الخليفة، ونحن نطيعه، و الاّ فالذين يعصون الرسولy ويظلمون الناس هم قطاع طرق ولو كانوا سلاطين.
ان عدونا هو الجهل والضرورة والاختلاف، وسنجاهد هؤلاء الأعداء الثلاثة بسلاح الصناعة والمعرفة والاتفاق. وسنتعاون ونتصادق يداً بيد مع الأتراك وهم إخواننا الحقيقيون الذين كانوا السبب -من جهة- لإيقاظنا من غفلتـنا ودفعنا إلى سبيل الرقي. نعم، نتعاون معهم ومع جميع من يجاورنا، لان الخصام والعداء فساد أي فساد. فلا نملك وقتاً للخصام. ونحن لا نتدخل بشؤون الحكومة، حيث أننا لا ندرك حكمتها.
ولقد كانت لهذه النصيحة جدوىً وأثراً في أولئك الحمالين الذين قاطعوا العمل في إنزال البضائع النمساوية(2) -مثلما أقاطع البضائع الأوروبية قاطبة- حيث تصرفوا تصرفاً يتسم بالعقلانية وبعيداً عن
---------------------------
(2) في 9 رمضان سنة 1326هـ (9 تشرين الأول 1908م) أعلنت النمسا ضم البوسنة والهرسك اليها مستفيدة في ذلك من أفول نجم السلطان عبد الحميد الثاني. على اثر هذا القرار تم إعلان مقاطعة جماهيرية للبضائع النمساوية وللمخازن التي تبيع هذه البضائع، وأعلن الحمالون مقاطعتهم لتفريغ البضائع النمساوية، ولكن الأمور لم تبق محصـورة في هذا المجال بل تطورت الى حد هدد الحياة التجارية في استانبول، كما انحرفت وجهة المقاطعة الى عصيان الحمالين لأوامر رؤسائهم (رؤساء الحمالين) واصبحوا يتجمعون في بعض المقاهي وفي مركز رئيسي لهم في (خان عشيرة) فأصبح الجو مهدداً بالانفجار، فذهب اليهم "بديع الزمان" وألقى عليهم خطبة جميلة حسب مداركهم استطاع فيها الحيلولة دون التطور السيء للأحداث، حتى ان مفتش الشرطة العام لاستانبول قدّم شكره وتقديره لمساعيه الحميدة.