السيرة الذاتية | السنوات الأخيرة في إسثارطة | 464
(441-494)

انقضت اربعون سنة على لقائي الأول بالأستاذ. في ذلك الزمان كنا نحضر يومياً في ادارة المجلة مع عاكف ونعيم وفريد والازميرلي المحترمين، ونقضى معاً ساعات طيبة في احاديث شتى. ويتحدث الأستاذ - بلهجته الخاصة - في المسائل العلمية الرفيعة، فنجد حرارة في انفسنا من جلادة وحشمة احاديثه. ذكاء فطري غير معتاد وموهبة إلهية. تظهر قدرة وعظمة ذكائه اشد المسائل تعقيداً. عقل دائم العمل والفكر. لا يشتغل بالنقل كثيراً، فمرشده القرآن، وهو نبع فيضه وذكائه. وهذه اللمع كلها تدفق من هذا النبع مباشرة. صاحب رأي سديد أشبه بمجتهد او امام، وقلبه ملئ بايمان راسخ أشبه بايمان صحابي، وفي روحه شهامة كشهامة عمر. هو مؤمن احيا عصر الرسالة السعيدة بين جوانحه في القرن العشرين، وجعل الإيمان والقرآن غاية له. ان غاية غايات الإسلام، اعني أساس (التوحيد) و (الإيمان بالله)، هي اعظم عمدته وعمدة رسائل النور. واظنه لو كان في خير القرون وظهور الإسلام، فلعل الرسولy كان يكلفه بمهمة تحطيم الاصنام في الكعبة. فقد كان عدواً للشرك وعبادة الاصنام اقصى درجات العداء.
عمر طويل، قرن واحد تقريباً، قضاه في الجهاد لترسيخ حقائق الإيمان والقرآن في القلوب. عمر قضاه في الفضيلة والشهامة. فهو في ميادين الحرب بطل يتقدم المجاهدين، يستل السيف، ثابت الاقدام، يحمل على الأعداء. وهو في الأسر بطل يتصدى لقائد الأعداء. وهو على منصة الاعدام ظل يسوق قائد الأعداء إلى التفكير ويقوده إلى الانصاف.
فدائي لا يتردد لحظة من التضحية بروحه من اجل شعبه وبلاده. عدو شديد للفتنة والهدم. يتحمل كل ظلم وتعذيب من أجل منافع الامة، في سبيل الغاية، أسهل شئ عليه أن يقتات بشربة حساء وقدح ماء ولقمة خبز ويلبس خرقة خامة بيضاء قطنية يغير ملابسه قبل ان تتسخ ويغسلها، ويعتني بالنظافة اعتناء فائقاً. لا يمسك بالنقود الورقية بيده ولا يحملها. لا يملك شيئاً قيماً في هذه الدنيا. يعيش للناس لا لنفسه.
ضعيف البنية، لكنه ذو مهابة وحشمة. عيناه تشعان نوراً مثل الشمس، ونظراته نظرات سلطان، أغنى سلطان في عالم المعنى مع أنه أفقر الناس في الدنيا مالاً.
لم تخلف آلام نيف وثمانين سنة تجعدات في وجهه وان اشعلت في رأسه الشيب. لون بشرته بياض مشرئب بحمرة. غير ملتح. نشط كأنه في عمر الشباب. حليم وهادئ، لكنه حين يهيج، يبدو كالاسد، وينتصب على ركبتيه، ويتكلم مثل سلطان.
اكره شيئ إلى نفسه السياسة. فلم يمسك في يده صحيفة منذ خمس وثلاثين سنة. مقطوع الصلة بشؤون الدنيا. لا يلتقي انساناً بعد صلاة العشاء إلى وقت الظهر من غده منشغلاً بالعبادة. ينام قليلاً. وقد منع طلابه ايضاً عن السياسة. طلابه الذين بلغ عددهم ستمائة ألف او مليون هم اكثر ابناء الوطن تمسكاً بالفضائل. والمئات او الالوف من طلابه يدرسون العلوم الصرفة في كليات الجامعات، فتراهم اشد الطلاب همة واعظمهم فضيلة. ولم يقع ان تسبب انسان من طلاب النور الذين بلغوا مئات

لايوجد صوت