الكلمات | الكلمة السابعة والعشرون | 654
(652-663)

دروساً وعبراً له من حيث لا يشعر، وكأن قلبه وفطرته يتلقيان الدروس والارشاد من كل ما حوله، ويستفيدان من كل حادثة وظرف وطور، وكأن كل شئ يقوم بدور معلم مرشد يعلم فطرته ويلقنها ويرشدها ويهيؤها للاجتهاد، حتى يكاد زيت ذكائه يضئ ولو لم تمسسه نار الاكتساب. فاذا ما شرع مثل هذا الشخص المستعد في مثل هذا المجتمع، بالاجتهاد في اوانه، فان استعداده ينال سراً من اسرار (نور على نور) ويصبح في اقرب وقت واسرعه مجتهداً.
بينما في العصر الحاضر: فان تحكم الحضارة الاوروبية، وتسلط الفلسفة المادية وافكارها، وتعقد متطلبات الحياة اليومية.. كلها تؤدي الى تشتت الافكار وحيرة القلوب وتبعثر الهمم وتفتت الاهتمامات، حتى اضحت الامور المعنوية غريبة عن الاذهان.
لذا، لو وجد الآن مَن هو بذكاء (سفيان بن عيينة)(1) الذي حفِظ القرآن الكريم وجالس العلماء وهو لا يزال في الرابعة من عمره، لاحتاج الى عشرة امثال ما احتاجه ابن عيينة ليبلغ درجة الاجتهاد، اي انه لو كان قد تيسر لسفيان بن عيينة الاجتهاد في عشر سنوات فان الذي في زماننا هذا قد يحصل عليه في مائة سنة، ذلك لان مبدأ تعلم (سفيان) الفطري للاجتهاد يبدأ من سن التمييز ويتهيأ استعداده تدريجاً كاستعداد الكبريت للنار، اما نظيره في الوقت الحاضر فقد غرق فكرُه في مستنقع الفلسفة المادية وسرح عقلُه في احداث السياسة، وحار قلبُه امام متطلبات الحياة المعاشية، وابتعدت استعداداته وقابلياته عن الاجتهاد، فلا جرم قد ابتعد استعداده عن القدرة على الاجتهادات الشرعية بمقدار تفننه في العلوم الارضية

(1) ولد في الكوفة سنة 107 هـ وتوفي سنة 198 هـ بمكة المكرمة كان اماماً عالماً ثبتاً، حجة زاهداً ورعاً مجمعاً على صحة حديثه وروايته، حج سبعين حجة، ادرك نيفاً وثمانين نفساً من التابعين. روى عن الزهري والسبيعي وابن المنكدر وابي الزناد وعاصم المفري والاعمش وعبد الملك بن عمير وغير هؤلاء من اعيان العلماء. وروى عنه الامام الشافعي وشعبة ومحمد بن اسحاق وابن جريج وابن بكار وعمه مصعب والصنعاني ويحيى بن اكثم وخـلق كثـير رضـي الله عنهم (باختــصار عن وفيــات الاعيان لابن خلكان2/391). - المترجم.

لايوجد صوت