لميزان، ولأن كلاً من التخيل والتوهم والتصور والتفكر ليس بتصديق وإذعان فلا يعدّ شبهةً ولا تردداً. لكن اذا تكررت هذه الحالة - دون مبرر - وبلغت حالة من الاستقرار في النفس فقد يتمخض عنها لون من الشبهات الحقيقية، ثم قد ينزلق الموسوس، بالتزامه الطرف المخالف باسم المحاكمات العقلية الحيادية أو باسم الانصاف، الى حالة يلتزم المخالف دون اختيار منه، وعندها يتنصل من الالتزامات الواجبة عليه تجاه الحق، فيهلك؛ اذ تتقرر في ذهنه حالة اشبه ما يكون بالمفوّض والمخوّل من قبل الطرف المخالف اي الخصم أو الشيطان.
ولعل أهم نوع من هذه الوسوسة الخطيرة هو:
ان الموسوس يلتبس عليه (الامكان الذاتي) و (الامكان الذهني) أي أنه يتوهم بذهنه ويشك بعقله ما يراه ممكناً في ذاته، علماً بأن هنالك قاعدة كلامية في (علم المنطق) تنص على: (ان الامكان الذاتي لا ينافي اليقين العلمي، ومن ثم فلا تعارض ولا تضاد بينه وبين الضرورات الذهنية وبديهياتها) ولتوضيح ذلك نسوق هذا المثال:
من الممكن ان يغور البحر الاسود الآن، فهذا شئ محتمل الوقوع بالامكان الذاتي، الاّ اننا نحكم يقيناً بوجود البحر المذكور في موقعه الحالي، ولا نشك في ذلك قطعاً. فهذا الاحتمال الامكاني والامكان الذاتي لا يولدان شبهة ولا شكاً، بل لا يخلان بيقيننا أبداً.
ومثال آخر: من الممكن الاّ تغيب الشمس اليوم، ومن الممكن الاّ تشرق غدا، الاّ أن هذا الامكان والاحتمال لا يخل بيقيننا بأي حال من الاحوال، ولا يطرأ اصغر شبهة عليه. وهكذا على غرار هذين المثالين فالاوهام التي ترد من الامكان الذاتي على غروب الحياة الدنيا وشروق الآخرة التي هي من حقائق الغيب الايمانية لا تولد خللاً في يقيننا الايماني قطعاً. ولهذا فالقاعدة المشهورة في اصول الدين واصول الفقه: (لا عبرة للاحتمال غير الناشئ عن الدليل).
واذا قلت: (تُرى ما الحكمة من ابتلاء المؤمنين بهذه الوساوس المزعجة للنفس المؤلمة للقلب؟).