وبدأ يتفلسف ويتفوه بما هو من قبيل السفسطة(1). وهنا بدأت المناقشة الجادّة بينهما. وأخذ الحوار يشتد اذ سأل المغفل:
- (وما السلطان؟ فانا لا اعرفه). فردّ عليه صاحبه:
- انك بلاشك تعلم انه لا قرية بلا مختار، ولا إبرة، بلا صانع وبلا مالك، ولا حرف بلا كاتب. فكيف يسوغ لك القول: انه لا حاكم ولا سلطان لهذه المملكة الرائعة المنتظمة المنسقة؟ وكيف تكون هذه الأموال الطائلة والثروات النفيسة الثمينة بلا مالك، حتى كأن قطاراً مشحوناً بالارزاق الثمينة يأتي من الغيب كل ساعة ويفرغ هنا ثم يذهب(1)! أوَ لا ترى في أرجاء هذه المملكة اعلانات السلطان وبياناته، واعلامَه التي ترفرف في كل ركن، وختمه الخاص وسكّته وطرّته على الاموال كلها، فكيف تكون مثل هذه المملكة دون مالك؟.. يبدو انك تعلمت شيئاً من لغة الافرنج، ولكنك لا تستطيع قراءة هذه الكتابات الاسلامية ولا ترغب ان تسأل من يقرأها ويفهمها، فتعال اذن لأقرأ لك أهم تلك البلاغات والاوامر الصادرة من السلطان.. فقاطعه ذلك المعاند قائلاً:
- (لنسلّم بوجود السلطان، ولكن.. ماذا يمكن ان تضره وتنقص من خزائنه ما أحوزه لنفسي منها؟ ثم اني لا أرى هنا عقاباً من سجن أو ما يشبهه!)
أجابه صاحبه:
- (يا هذا، ان هذه المملكة التي نراها ما هي الاّ ميدان اِمتحانٍ واختبار، وساحة تدريب ومناورة، وهي معرض صنائع السلطان البديعة، ومضيف مؤقت جداً.. ألا ترى ان قافلة تأتي يومياً وترحل أخرى وتغيب؟ فهذا هو شأن هذه المملكة العامرة، انها تملأ وتخلى
(1) السفسطة: الإستدلال والقياس الباطل، أو الذي يقصد به تمويه الحقائق. والسفسطائية فرقة ينكرون الحسيات والبديهيات وغيرها- المترجم.
(1) اشارة الى فصول السنة حيث الربيع يشبه شاحنة قطار مملوءة بالأغذية و يأتي من عالم الغيب. المؤلف.