ولوجود المنافذ في الحجب، والتناظر في الشؤون، والتعاكس في الاسماء، والتداخل في التمثّلات، والتمازج في العناوين، والتشابه في الظهور، والتساند في التصرفات، والتعاضد في الربوبيات، لزم البتة لمن عرفه سبحانه في واحد مما مر من الاسماء والعناوين والربوبية الاّ ينكر سائر الاسماء والعناوين والشؤون، بل يفهم بداهة انه هو هو. وإلاّ يتضرر إن ظل محجوباً عن تجليات الاسماء الاخرى ولم ينتقل من تجلي اسمٍ الى آخر.
فمثلاً: اذا رأى أثر اسمِ الخالق القدير، ولم ير اثر اسم العليم، يسقط في ضلالة الطبيعة، لذا عليه ان يجول بنظره فيما حوله ويرى أن الله هو هو، ويشاهد تجليه في كل شئ. وان تسمع اذنه من كل شئ: ﴿قل هو الله احد﴾ وينصت اليه. وان يردد لسانه دائماً: لا إله الاّ الله ويعلن (لآ اِلَه اِلاّ هُو بَرَابَرْ ميزَنَدْ عَالَمْ). وهكذا يشير القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة ﴿الله لا إله الاّ هو له الاسماء الحسنى﴾ الى الحقائق التي ذكرناها.
فان كنت تريد ان تشاهد تلك الحقائق الرفيعة عن قرب، فاذهب الى بحرٍ هائج، والى ارضٍ مهتزة بالزلازل، وأسألهما: ما تقولان؟ ستسمع حتماً انهما يناديان: يا جليل.. يا جليل.. يا عزيز.. يا جبار…
ثم اذهب الى الفراخ والصغار من الحيوانات، التي تعيش في البحر أو على الارض، والتي تُربى في منتهى الشفقة والرحمة، وأسألها: ما تقولين؟ لابد أنها تترنم: يا جميل .. يا جميل.. يا رحيم.. يا رحيم(1).
(1) حتى انني لاحظت القطط وتأملت فيها، فرأيت أنها بعدما اكلت ولعبت، نامت. فورد الى ذهني سؤال: لِمَ يُطلق على هذه الحيوانات الشبيهة بالمفترسة، حيوانات مباركة طيبة؟ ثم في الليل اضطجعت لأنام واذا بقطة من تلك القطط جاءت واستندت الى مخدتي وقرّبت فمها الى اذني، وذكرت الله ذكراً صريحاً باسم: ((يارحيم .. يا رحيم ..يا رحيم)) وكأنها ردّت ما ورد من الاعتراض والاهانة باسم طائفتها. فورد الى عقلي: تُرى هل ان هذا الذكر خاص بهذه القطة فقط أم بطائفة القطط عامة؟ وان استماع ذكرها، هل هو خاص بي ومنحصر لمعترض بغير حق مثلي أم ان كل انسان يستطيع الاستماع - الى حد - لوأعار سمعه اليها؟ وفي الصباح بدأتُ انصت الى القطط الاخرى، كانت تكرر الذكر نفسه بدرجات متفاوتة وان لم يكن صريحاً مثل الأولى. اذ في بداية هريرها لا يتميز هذا الذكر ثم يمكن تمييز: يا رحيم .. يا رحيم.. في الهرير، ثم يتحول هريرها كله الى: يا رحيم نفسه. فتذكرالله ذكراً حزيناً فصيحاً دون اخراج للحروف حيث تسد فمها وتذكرالله ذكراً لطيفاً بــ : يا رحيم.
ذكرتُ الحادثة نفسها الى الذين أتوا لزيارتي، وهم بدورهم بدأوا يلاحظون الأمر. ثم قالوا: نسمع الذكر الى حدٍ ما، ثم ورد بقلبي: ما وجه تخصيص هذا الاسم : يارحيم؟ ولِمَ تذكر القطط هذا الاسم بالذات بلهجة لسان الانسان ولا تذكره بلسان الحيوانات. فورد: ان القط حيوان رقيق لطيف كالطفل الصغير، يختلط مع الانسان في كل زاوية من مسكنه، حتى كأنه صديقه فهو محتاج اذن الى مزيد من الشفقة والرحمة. فعندما يُلاطف ويستأنس به يحمد الله تاركاً الاسباب - بخلاف الكلب - ومعلناً في عالمه الخاص رحمة خالقه الرحيم، فيوقظ بذلك الذكر الانسان السادر في نوم الغفلة وبنداء ((يارحيم)) ينبه عَبَدة الاسباب قائلاًً : ممن يَرِدُ المدد والعون وممن يتوقع الرحمة؟ - المؤلف.