بهذه البلاغة الخارقة تحدى القرآن الكريم، منذ ألف وثلاث مئة من السنين، أذكى بلغاء بني آدم وأبرع خطبائهم وأعظم علمائهم، فما عارضوه، وما حاروا ببنت شفة، مع شدة تحديه اياهم، بل خضعت رقابهم بذل، ونكسوا رؤوسهم بهوان، مع أن من بلغائهم مَن يناطح السحاب بغروره.
نشير الى وجه الاعجاز في بلاغته بصورتين:
الصورة الاولى:
ان أكثر سكان جزيرة العرب كانوا في ذلك الوقت أميين، لذا كانوا يحفظون مفاخرهم ووقائعهم التاريخية وأمثالهم وحكمهم ومحاسن أخلاقهم في شعرهم، وبليغ كلامهم المتناقل شفاهاً، بدلاً من الكتابة. فكان الكلام الحكيم ذو المغزى يستقر في الاذهان ويتناقله الخلف عن السلف. فهذه الحاجة الفطرية فيهم دفعتهم الى أن يكون أرغب متاع في أسواقهم وأكثره رواجاً هو: الفصاحة والبلاغة، حتى كان بليغ القبيلة رمزاً لمجدها وبطلاً من أبطال فخرها. فهؤلاء القوم الذين ساسوا العالم بفطنتهم بعد اسلامهم كانوا في الصدارة والقمة في ميدان البلاغة بين أمم العالم. فكانت البلاغة رائجة وحاجتهم اليها شديدة حتى يعدونها مدار اعتزازهم، بل حتى كانت رحى الحرب تدور بين قبيلتين أو يحل الوئام بينهما بمجرد كلام يصدرعن بليغهم بل كتبوا سبع قصائد بماء الذهب لأبلغ شعرائهم وعلقوها على جدار الكعبة، فكانت (المعلقات السبعة) التي هي رمز فخرهم.
ففي مثل هذا الوقت الذي بلغت فيه البلاغة قمة مجدها، ومرغوب فيها الى هذا الحد، نزل القرآن الكريم - بمثل ما كـانت معــجزة ســيدنا مــوسى وعيسى عليهما السلام من جنس ما كان رائجاً في زمانهما، وهو السحر والطب - نزل في هذا الوقت متحدياً ببلاغته بلاغة عصره وكل العصور التالية، ودعا بلغاء العرب الى معارضته، والاتيان ولو بأقصر سورة من مثله، فتحداهم بقوله تعالى:﴿وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله﴾(البقرة: