والاولياء الصالحون والمنوّرون من حكماء الاشراقيين(1) امام حكمة القرآن مشيرين من هذا الجانب الى اعجاز القرآن اشارة مختصرة.
ان اصدق دليل على سمو القرآن الحكيم وعلوه، واوضح برهان على كونه صدقاً وعدلاً واقوى علامة وحجة على اعجازه هو:
ان القرآن الكريم قد حافظ على التوازن في بيانه التوحيد بجميع اقسامه مع جميع مراتب تلك الاقسام وجميع لوزامه، ولم يخل باتزان أيٍ كان منها.. ثم انه قد حافظ على الموازنة الموجودة بين الحقائق الإلهية السامية كلها.. وجمع الاحكام التي تقتضيها الاسماء الإلهية الحسنى جميعها مع الحفاظ على التناسب والتناسق بين تلك الاحكام.. ثم انه قد جمع بموازنة كاملة شؤون الربوبية والالوهية.
فهذه (المحافظة والموازنة والجمع) خاصيةٌ لا توجد قطعاً في أي أثر كان من آثار البشر، ولا في نتاج افكار اعاظم المفكرين كافة، ولا توجد قط في آثار الاولياء الصالحين النافذين الى عالم الملكوت، ولا في كتب الاشراقيين الموغلين في بواطن الامور، ولا في معارف الروحانيين الماضين الى عالم الغيب؛ بل كل قسم من اولئك قد تشبث بغصن أو غصنين فحسب من اغصان الشجرة العظمى للحقيقة، فانشغل كلياً مع ثمرة ذلك الغصن وورقه، دون أن يلتفت الى غيره من الاغصان؛ إما لجهله به أو لعدم التفاته اليه. وكأن هناك نوعاً من تقسيم الاعمال فيما بينهم.
نعم! ان الحقيقة المطلقة لا تحيط بها أنظار محدودة مقيدة. اذ تلزم نظراً كلياً كنظر القرآن الكريم ليحيط بها. فكل ما سوى القرآن الكريم - ولو يتلقى الدرس منه - لا يرى تماماً بعقله الجزئي المحدود إلاّ طرفاً أو طرفين من الحقيقة الكاملة فينهمك بذلك الجانب ويعكف عليه، وينحصر فيه، فيخلّ بالموازنة التي بين الحقائق ويزيل تناسقها إما بالافراط أو بالتفريط. ولقد بينا هذه الحقيقة بتمثيل عجيب في الغصن الثاني من الكلمة الرابعة والعشرين. أما هنا فسنورد مثالاً آخر
(1) الاشراقيون: فلاسفة صوفيون إلاّ أن من ارائهم ما لا يتفق مع الاسلام، مذهبهم مزيج من الفلسفة الافلاطونية الجديدة والاسلام. - المترجم.