ما دامت هذه الكائنات موجودة فعلاً، وتُشاهد فيها افعالٌ وايجاد.. وان الفعل المنتظم لا يكون بلا فاعل، والكتاب البليغ لا يكون بلا كاتب، والنقش البديع لا يكون بلا نقّاش.. فلابد من فاعل لهذه الافعال الحكيمة المالئة للكائنات، ولابد من نقاش وكاتب لهذه النقوش البديعة والرسائل البليغة التي تملأ وجه الأرض وتتجدد كل موسم وموسم.. وحيث ان وجود حاكمَين في أمرٍ ما يفسد نظام ذلك الشئ.. وان هناك انتظاماً كاملاً وتناسقاً تاماً، من جناح الذباب الى قناديل السموات.. اذن فان ذلك الحاكم واحدٌ أحدٌ؛ لأن الصنعة والحكمة في كل شئ هما من الابداع والاتقان بحيث يلزم ان يكون صانع ذلك الشئ قديراً مطلقاً، مقتدراً على كل شئ وعليماً بكل شئ، إذ لو لم يكن واحداً للزم وجود آلهة بعدد الموجودات، ولغدا كل إله ضد الآخر ومثله! وعندئذٍ يكون بقاء هذا النظام دون فساد محالاً في ألف محال!
ثم ان طبقات هذه الموجودات لما كانت اكثر انتظاماً وطاعةً للاوامر بألف مرة من جيش منظم كما هو مشاهَد بالبداهة؛ اذ ان كل انتظام من إنتظام حركات النجوم والشمس والقمر الى انتظام ازهار اللوز.. يبدي انتظاماً بديعاً وكاملاً فيما منحها القديرُ الأزلي من شارات وأوسمة وألبسها من لباس قشيب، وعيّن لها من حركات واعمال، يفوق ما يبديه الجيش من نظام وطاعة الف الف مرة.. لذا فلهذه الكائنات حكيم مطلق الحكمة محتجبٌ وراء الغيب، تترقب موجوداتُها أوامَره لتمتثل بها.
وما دام ذلك الحكيم المطلق سلطاناً ذا جلال؛ بشهادة جميع اجراءاته الحكيمة، وبما يظهره من آثار جليلة.. ورباً رحيماً واسع الرحمة؛ بما يُبديه من آلاء واحسانات.. وصانعاً بديعاً يحب صنعته كثيراً، بما عرضه من مصنوعات بديعة.. وخالقاً حكيماً يريد إثارة اعجاب ذوي الشعور وجلب استحسانهم بما نشره من تزيينات جميلة وصنائع رائعة.. ويُفهم مما أبدعه من جمال يأخذ بالالباب في خلق العالم أنه يريد إعلام ذوي الشعور من مخلوقاته: ما المقصود من هذه التزيينات؟ ومن أين تأتي المخلوقات والى اين المصير؟.. فلا ريب ان