وهكذا فهذه الايات التي هي سلسلة الحقائق، قد بينا بياناً مجملاً جوهرةً واحدة منها فقط من مئات جواهرها، تلك الجوهرة التي تخص (الالزام والافحام). فلو كانت لي قدرة لأبين عدة جواهر اخرى منها لكنتَ تقول ايضاً: ان هذه الآيات معجزة بحد ذاتها!
أما بيان القرآن في (الافهام والتعليم) فهو خارق وذو لطافة وسلاسة، حتى ان ابسط شخص عامي يفهم - بتلك البيانات - اعظم حقيقة واعمقها بيسر وسهولة.
نعم! ان القرآن المبين يرشد الى كثير من الحقائق الغامضة ويعلّم الناس اياها باسلوب سهل وواضح وببيان شافٍ يراعي نظر العوام، من دون ايذاء لشعور العامة ولا إرهاق لفكر العوام ولا ازعاج له، فكما اذا ما حاور انسان صبياً فانه يستعمل تعابير خاصة به، كذلك الاساليب القرآنية والتي تسمى بـ(التنزلات الإلهية الى عقول البشر) خطاب ينزل الى مستوى مدارك المخاطبين، حتى يفهّم أشد العوام أمية، من الحقائق الغامضة والاسرار الربانية ما يعجز حكماءٌ متبحرون عن بلوغها بفكرهم؛ وذلك بالتشبيهات والتمثيلات بصور متشابهات.
فمثلاً: الآية الكريمة:
﴿الرحمن على العرشِ استوى﴾ تبين الربوبية الإلهية وكيفية تدبيرها لشؤون العالم في صورة تمثيل وتشبيه لمرتبة الربوبية بالسلطان الذي يعتلي عرشه ويدير أمر السلطنة.
نعم! لما كان القرآن كلاماً لرب العالمين نزل من المرتبة العظمى لربوبيته الجليلة، مهيمناً على جميع المراتب الاخرى، مرشداً البالغين الى تلك المراتب، مخترقاً سبعين ألف حجاب، ملتفتاً اليها ومنوراً لها، وقد نشر نوره على الاف الطبقات من المخاطبين المتباينين في الفهم والادراك، ونثر فيضه طوال عصور وقرون متفاوتة في الاستعدادات. وعلى الرغم من نشره لمعانيه بسهولة تامة في جميع الانحاء والازمان، احتفظ بحيويته ونداوته ونضارته ولم يفقد شيئاً