اما في عالم الأبدية، فـان الذرات تبقى ثابتة لا تتعرض للتركيب والتحلل، أو تستقر المـوازنـة، فهي تامة ومستمرة بين الـواردات والصرفيات(1)، ويصبح الجسم أبدياً مع اشتغال مصنع الحياة الجسمانية لاستمرار تـذوق اللذائذ. فعلى الرغـم من ان الأكـل والـشرب والعـلاقات الزوجية، ناشئة عـن حاجة في هذه الدنيا وتُفضي الـى اداء وظيفة، فقد أودعـت فيها لذائذ حـلوة ومتنوعة ترجح على سائر اللذائذ، اجرة معجلة لتلـك الوظيفة.
فما دام الأكل والنكاح مدار لذائذ عجيبة ومتنوعة الى هذا الحد، في دار الألم هذه، فلاشك ان تلك اللذائذ تتخذ صوراً رفيعة جداً وسامية جداً، في دار اللذة والسعادة، وهي الجنة فضلاً عن لذة الأجرة الأخروية للوظيفة الدنيوية، التي تزيدها لذة، وعلاوة على لذة الشهية الأخروية اللطيفة نفسها، بدلاً عن الحاجة الدنيوية - التي تزيدها لذة أخرى - حتى تزداد تلك اللذائذ لطافة وذوقاً بحيث تكون لذة جامعة لجميع اللذائذ، ونبعاً حياً فياضاً للذائذ لائقة بالجنة وملائمة للأبدية. اذ المواد الجامدة التي لا شعور لها ولا حياة، في دار الدنيا هذه، تصبح هناك ذات شعور وحياة بدلالة الآية الكريمة:
﴿وما هذه الحياة الدنيا الاّ لهو ولعبٌ وان الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾(العنكبوت: 64).
فالاشجار هناك كالانسان هنا، تدرك الأوامر وتنفّذها، والاحجار هناك كالحيوانات هنا، تطيع ما تُؤمر. فاذا قلت لشجرة: إعطيني ثمرة كذا تعطيك حالاً، وان قلت لحجر: تعال هنا، يأتيك.
فما دامت الاشجار والاحجار تتخذ مثل هذه الدرجات العالية من الصفات، فلاشك ان الأكل والشرب والنكاح تتخذ صوراً رفيعة عالية، مع محافظتها على حقيقتها الجسمانية التي تفوق درجاتها الدنيوية بنسبة
(1) ان جسم الانسان والحيوان في هذه الدنيا، كأنه مضيف للذرات، وثكنة عسكرية لها، ومدرسة تعليم لها، حيث تدخل فيه الذرات الجامدة فتكتسب لياقة تؤهله لتكون ذراتٍ لعالم البقاء الحي، ثم تخرج منه، اما في الآخرة فان نور الحياة هناك عام شامل لكل شئ لقوله تعالى: ﴿وإن الدار الاخرة لهي الحيوان﴾، فلا حاجة الى ذلك السير والسفر والتعليمات، ولا الى تلك التعليمات والتدريبات لأجل التنور. فالذرات تبقى ثابتة مستقرة. - المؤلف.