ومن هنا ندرك لِمَ يتوانى العالم الاسلامي في قبولها ويتحرج. ان استنكافه منها له مغزى، يلفت النظر.
نعم! ان النور الإلهي في الشريعة الغراء يمنحها خاصة مميزة وهي: الاستقلال الذي يؤدي الى الاستغناء.
هذه الخاصية لا تسمح ان يتحكم في ذلك النور دهاء(2) روما - الممثل لروح هذه المدنية - ولا يطعّم بها ولا يمتزج معها. ولن تكون الشريعة تابعة لذلك الدهاء.
اذ الشريعة تربي في روح الاسلام الشفقة وعزة الايمان. فلقد اخذ القرآن بيده حقائق الشريعة. كل حقيقة منها عصا موسى (في تلك اليد). وستسجد له تلك المدنية الساحرة سجدة تبجيل واعجاب.
والآن دقق النظر في هذا:
كانت روما القديمة واليونان يملكان دهاءً، وهما دهاءان توأمان، ناشئان من أصل واحد. احدهما غلب الخيال عليه. والآخر عبد المادة. ولكنهما لم يمتزجا، كما لا يمتزج الدهن بالماء. فحافظ كل منهما على استقلالها، رغم مرور الزمان، ورغم سعي المدنية لمزجهما، ومحاولة النصرانية لذلك. الاّ ان جميع المحاولات باءت بالاخفاق.
والآن، بدلت تلكما الروحان جسديهما، فاصبح الألمان جسد احدهما والفرنسيون جسد الآخر. وكأنهما قد تناسخا منهما.
ولقد أظهر الزمان: ان ذينك الدهاءين التوأمين قد ردّا أسباب المزج بعنف، ولم يتصالحا الى الوقت الحاضر.
فلئن كان التوأمان، الصديقان، الاخوان الرفيقان في الرقي قد تصارعا ولم يتصالحا، فكيف يمتزج هدى القرآن - وهـو من اصل مغاير ومعــدن آخر ومطلع مختلف - مع دهاء روما وفلسفتها؟! فذلك الدهاء، وهذا الهدى مختلفان في المنشأ.
الهدى نزل من السماء.. والدهاء خرج من الارض.
(2) كلمة (الدهاء) في هذا المبحث يقصد منها، المفاهيم المادية التي تتبناها حضارة الغرب. أو الفكر المادي في فلسفته. ولقد أبقينا الكلمة كما هي لما فيها من تجانس جميل مع الهدى. - المترجم.