التي هي عناصر قوية شاملة كالنور، والهواء والماء والتراب، وانكار وجودها الظاهر ظهور تلك العناصر. لانه من المعلوم ان هذه الدنيا وما فيها لا تفي لظهور تلك الحقائق، فلو لم يكن هناك في مكان آخر ما هو اهل لها، فيجب انكار هذه الحكمة الموجودة في كل شئ أمامنا - بجنون من ينكر الشمس الذي يملأ نورها النهار - وانكار هذه العناية التي نشاهدها دائماً في أنفسنا وفي أغلب الاشياء. وانكار هذه العدالة الجلية الظاهرة الامارات(1). وانكار هذه الرحمة التي نراها في كل مكان. وكذلك يلزم ان يعتبر صاحب ما نراه من الاجراءات الحكيمة والافعال الكريمة، والآلاء الرحيمة (حاشَ لله ثم حاشَ لله) لاهياً لاعباً ظالماً غدّاراً تعالىالله عن ذلك علواً كبيراً، وما هذا الاّ انقلاب الحقائق باضدادها، وهو منتهى المحال، حتى السوفسطائيون الذين انكروا وجود انفسهم لم يدنوا الى تصوّر هذا المحال بسهولة.
والخلاصة: أنه ليست هناك علاقة أو مناسبة بين ما يُشاهَد في شؤون العالم من تجمعات واسعة للحياة، وافتراقات سريعة للموت، وتكتلات ضخمة، وتشتتات سريعة، واحتفالات هائلة، وتجليات رائعة.. وبين ما هو معلوم لدينا من نتائج جزئية، وغايات تافهة مؤقتة، وفترة قصيرة تعود الى الدنيا الفانية. لذا فالربط بينهما بعلاقة، أو ايجاد مناسبة، لا ينسجم مع عقل ولا يوافق مع حكمة، اذ يشبه ذلك ربط حِكَم هائلة وغايات عظيمة كالجبل بحصاة صغيرة جداً، وربط غاية تافهة جزئية مؤقتة - بحجم الحصاة - بجبل عظيم!!.
(1) نعم، ان العدالة شقان احدهما ايجابي، والآخر سلبي.
اما الايجابي فهو: اعطاء كل ذي حق حقه. فهذا القسم من العدالة محيط وشامل لكل ما في هذه الدنيا لدرجة البداهة. فكما اثبتنا في (الحقيقة الثالثة) بان ما يطلبه كل شيء وما هو ضروري لوجوده وادامة حياته التي يطلبها بلسان استعداده وبلغة حاجاته الفطرية وبلسان اضطراره من الفاطر ذي الجلال يأتيه بميزان خاص دقيق، وبمعايير ومقاييس معينة، اي ان هذا القسم من العدالة ظاهر ظهور الوجود والحياة.
أما القسم السلبي فهو: تأديب غير المحقين، أي احقاق الحق بانزال الجزاء والعذاب عليهم. فهذا القسم وان كان لا يظهر بجلاء في هذه الدنيا الا ان هنالك اشارات وامارات تدل على هذه الحقيقة. خذ مثلاً سوطَ العذاب وصفعات التأديب التي نزلت بقوم عاد وثمود بل بالاقوام المتمردة في عصرنا هذا، مما يظهر للحدس القطعي هيمنة العدالة السامية وسيادتها. ــ المؤلف.