لنا في بذرة صغيرة جداً.. كل ذلك يرينا بداهةً كرماً في غاية الجمال، ورحمة في غاية اللطف.
وكذا، ان سعي جميع المخلوقات، صغيرها وكبيرها - عدا الانسان والوحوش الكاسرة - لإنجاز وظائفها بانتظام تام ودقة كاملة، ابتداءً من الشمس والقمر والارض الى اصغر مخلوق، بشكل لا يتجاوز أحد حدّه قيد أنملة، ضمن الطاعة التامة والانقياد الكامل المحفوفَين بهيبة عظيمة، يظهر لنا ان هذه المخلوقات لا تتحرك ولا تسكن الا بأمر العظيم ذي العزة والجلال.
وكذا، ان عناية الامهات بأولادهن الضعاف العاجزين - سواء في النبات أو الحيوان أو البشر - عناية ملؤها الرأفة والرحمة(1)، وتغذيتها بالغذاء اللطيف السائغ من اللبن، تريك عظمة التجليات، وسعة الرحمة المطلقة.
فما دام رب هذا العالم ومدبّره له هذا الكرم الواسع، وهذه الرحمة التي لا منتهى لها، وله الجلال والعزة المطلقان، وان العزة والجلال المطلقين يقتضيان تأديب المستخفين، والكرم الواسع المطلق يتطلب اِكراماً غير متناه، والرحمة التي وسعت كل شئ تستدعي احساناً يليق بها، بينما لا يتحقق من كل ذلك في هذه الدنيا الفانية والعمر القصير الا جزء ضئيل جداً هو كقطرة من بحر.
فلابد ان تكون هناك دار سعادة تليق بذلك الكرم العميم، وتنسجم مع تلك الرحمة الواسعة.. والا يلزم جحود هذه الرحمة المشهودة، بما هو كانكار وجود الشمس التي يملأ نورُها النهارَ، لأن الزوال الذي لا
(1) نعم ان ايثار الاسد الجائع شبله الضعيف على نفسه بما يظفر به من قطعة لحم، وهجوم الدجاج الجبان على الكلب والاسد حفاظاً على فراخها الصغيرة. وإعداد شجرة التين لصغارها ـ التي هي ثمارها ـ لبناً خالصاً من الطين.. كل ذلك يدل بداهة ـ لأهل البصائر ـ انها حصلت بأمر الرحيم الذي لا نهاية لرحمته، والكريم الذي لا نهاية لكرمه، والرؤوف الذي لا نهاية لرأفته وشفقته. وان قيام النباتات والحيوانات ـ التي لا وعي لها ولا شعور ـ بأعمال في منتهى الوعي والشعور والحكمة، يبين بالضرورة أن عليماً مطلقاً وحكيماً مطلقاً هو الذي يسوقها الى تلك الاعمال، وهي بأمره تأتمر. ـالمؤلف.