انظر الى هذا النبي الكريم إلامَ يدعو.. انه يدعو الى السعادة الابدية في صلاة كبرى شاملة، وفي عبادة رفيعة مسـتغرقة، حتى أن الجـزيرة العـربيـة، بل الارض برمّتها، كأنها تصلي مع صلاته، وتبتهل الى الله بابتهاله الجميل، ذلك لأن عبوديته y تتضمن عبودية جميع أمته الذين اتبعوه، كما تتضمن - بسـر الموافـقة في الاصـول - سرّ العبودية لجميع الانبياء عليهم السـلام. فهو يؤم صلاة كبــرى - ايّما صلاة - ويتضرع بدعاء - ويا له من تضــرع رقيق - فــي خـلـق عظـيـم، كـأن الـذين تنوروا بنور الايمان - من لدن آدم عليه السلام الى الآن والى يوم القيامة - اقتدوا به، وأمّنوا على دعائه(1).
انظر! كيف يدعو الله حاجة عامة كحاجة البقاء والخلود!. هذه الدعوة التي لا يشترك فيها معه أهل الارض وحدهم، بل أهل السموات ايضاً، لا بل الموجودات كافة. فتقول بلسان الحال: (آمين اللهم آمين استجب يا ربنا دعاءه، فنحن نتوسل بك ونتضرع اليك مثله).
ثم انظر! انه يسأل تلك السعادة والخلود بكل رقة وحزن، وبكل حب وود، وبكل شوق والحاح، وبكل تضرع ورجاء، يُحزن الكون جميعاً ويبكيه فيُسهمه في الدعاء.
ثم انظر وتأمل! انه يدعو طالباً السعادة لقصد عظيم، ولغاية سامية.. يطلبها لينقذ الانسان والمخلوقات جميعاً من التردي الى هاوية أسفل سافلين وهو الفناء المطلق والضياع والعبث، ويرفعه الى أعلى عليين وهو الرفعة والبقاء وتقلّد الواجبات وتسلّم المسؤوليات، ليكون أهلاً لها ويرقى الى مرتبة مكاتيب صمدانية.
انظر! كيف انه يطلب الاستعانة مستغيثاً ببكاء، متضرعاً راجياً من الاعماق، متوسلاً بإلحاح.. حتى كأنه يُسمع الموجودات جميعاً، بل
(1) نعم، ان جميع الصلوات التي تقيمها الامة كلها، منذ المناجاة الاحمدية ـ y ـ وجميع الصلوات والتسليمات التي تبعثها الى النبي y ان هي الا تأمين دائم لدعائه، ومشاركة عامة معه، حتى أن كل صلاة وسلام عليه هو تأمين على ذلك الدعاء. وان ما يأتيه كل فرد من أفراد الأمة من الصلوات في الصلاة، ومن الدعاء عقب الاقامة ـ لدى الشافعية ـ انما هو تأمين عام على ذلك الدعاء الذي يدعو به للسعادة الابدية. فالنبي y يرجو في دعائه البقاء والسعادة الابدية، وهذا هو ما يريده الانسان ويرجوه بكل ما أوتي من قوة بلسان حال فطرته، لذا يؤمّن خلفه جميع الذين تنوّروا بنور الايمان. فهل يمكن ألاّ يقرن هذا الدعاء بالقبول والاستجابة؟! ـ المؤلف.