البرهان العاشر
أيها الصديق ويا من يتقرب شيئاً فشيئاً الى الانصاف.. فها نحن هنا منذ خمسة عشر يوماً(1)، فان لم نعرف انظمة هذه البلاد وقوانينها ولم نعرف مليكها فالعقاب يحق علينا، اذ لا مجال لنا بعدُ للاعتذار. فلقد أمهلونا طوال هذه الأيام، ولم يتعرضوا لنا بشئ. الاّ اننا لا شك لسنا طلقاء سائبين، فنحن في مملكة رائعة بديعة فيها من الدقّة والرقة والعبرة في المصنوعات المتقنة ما ينم عن عظمة مليكها، فلابد أن جزاءه شديد ايضاً. وتستطيع أن تفهم عظمة المالك وقدرته من هذا:
انه ينظمّ هذا العالم الضخم بسهولة تنظيم قصر منيف، ويدير أمور هذا العالم العجيب بيسر ادارة بيتٍ صغير، ويملأ هذه المدينة العامرة بانتظام كامل دون نقص ويخلّيها من سكانها بحكمة تامة بمثل سهولة ملء صحن وافراغه. وينصب الموائد الفخمة المتنوعة(2) ويعد الاطعمة اللذيذة بكمال كرمه بيد غيبية ويفرشها من أقصى العالم الى أقصاه ثم يرفعها بسهولة وضع سُفرة الطعام ورفعها. فان كنت فطناً فستفهم ان هذه العظمة والهيبة لابد أنها تنـطوي على كـرم لا حـد له وسخاء لا حدود له.
ثم أنظر كما ان هذه الاشياء شاهدةُ صدقٍ على عظمة المالك القدير وعلى هيمنته، وعلى انه سلطان واحد أحد، كذلك القوافل المتعاقبة والتحولات المترادفة دليل على دوام ذلك السلطان وبقائه، لأن الأشياء الزائلة انما تزول معها أسبابُها أيضاً. فالأشياء والاسباب تزولان معاً، بينما التي تعقبها تأتي جديدة ولها آثارٌ كسابقتها، فهي اذن ليست من فعل تلك الأسباب، بل ممن لا يطرأ عليه الزوال! فكما ان بقاءَ اللمعان والتألّق - بعد زوال حَباب النهر الجاري - في التي تعقبها من الحباب، يفهمنا ان هذا التألق ليس من الحباب الزائلة بل من مصدر نور دائم، كذلك تبدل الأفعال بالسرعة المذهلة، وتلوّن التي
(1) اشارة الى سن التكليف البالغ خمس عشرة سنة. - المؤلف.
(2) اشارة الى وجه الأرض في الربيع والصيف حيث تخرج أطعمة لذيذة متنوعة من مطبخ الرحمة الالهية وتُنصَب موائد النعم المتنوعة المختلفة وتجدد باستمرار، فكل بستان مطبخ، وكل شجرة خادم المطبخ. - المؤلف.