الذي يقول الله تعالى في حقه ﴿ما زاغ البصرُ وما طغى﴾(النجم:17) والذي يقول عن نفسه (تنام عيناي ولا ينام قلبي)(1) هو اليقظان الحقيقي، فلا تنكر ما يراه هو، بل عبّر عنه وجِد تعبيراً له في رؤياك، والتمس له تفسيراً، اذ لو لسعت بعوضة شخصاً نائماً، فان آثار ذلك تظهر عليه وكأنه قد جرح في الحرب، واذا ما استفسر عنه بعد صحوه، فسيقول: نعم كنت في حرب دامية والمدافع مصوبة نحوي! بينما اليقظون الذين حوله يأخذون اضطرابه هذا مأخذ الاستهزاء. فنظرُ الغفلة المنومة وفكر الفلسفة المادية لا يمكن ان يكونا قطعاً محكاً للحقائق النبوية.
الاصل الثاني عشر
ان نظر النبوة والتوحيد والايمان يرى الحقائق في نور الالوهية والآخرة ووحدة الكون لأنه متوجه اليها. أما العلم التجريبي والفلسفة الحديثة فانه يرى الامور من زاوية الاسباب المادية الكثيرة والطبيعة لأنه متوجه اليها. فالمسافة اذن بين زاويتي النظر بعيدة جداً. فرب غاية عظيمة جليلة لدى اهل الفلسفة تافهة وصغيرة لا تكاد ترى بين مقاصد علماء اصول الدين وعلم الكلام. ولهذا فقد تقدم اهل العلم التجريبي كثيراً في معرفة خواص الموجودات وتفاصيلها واوصافها الدقيقة في حين تخلفوا كثيراً حتى عن ابسط المؤمنين وأقلهم علماً في مجال العلم الحقيقي وهو العلوم الإلهية السامية والمعارف الاخروية.
فالذين لا يدركون هذا السر، يظنون ان علماء الاسلام متأخرون عن علماء الطبيعة والفلاسفة، والحال ان من انحدرت عقولهم الى عيونهم واصبحوا لا يفكرون الا بما يرون، وغرقوا في الكثرة من المخلوقات، أنّى لهم الجرأة ليلحقوا بورثة الانبياء عليهم السلام الذين
(1) اخرجه احمد (2/151، 438) واسناده حسن من اجل ابن عجلان. واخرجه ايضاً ابن حبان (2124). لكن للحديث شواهد يرتقي بها الى درجة الصحة، منها ما اخرجه البخاري والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها، وشاهد آخر اخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه، وآخر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما اخرجه احمد (10/274) والترمذي (5121) وقال: حديث حسن صحيح غريب، وانظر المجمع (8/242) والطبقات لابن سعد (1/107).ــ المترجم.