وهكذا فان القدر البديهي المشهود يدل على ما في الحالات المعنوية ايضاً لذلك الكائن الحي من حدود منتظمة ومثمرة ونهايات مفيدة قد رسمت بقلم القدر ايضاً. فالقدرة مصدر، والقدر مِسطَر، تُسطّر القدرةُ على مسطر القدر، ذلك الكتاب للمعاني.
فما دمنا ندرك ادراكاً جازماً أن ما رُسم من حدود وثمرات ونهايات حكيمة، انما هو بقلم القدر المادي والمعنوي، فلابد أن ما يجريه الكائن الحي طوال حياته من احوال واطوار قد رسم ايضاً بقلم ذلك القدر. اذ إن تاريخ حياته يجري على وفق نظام وانتظام، مع تغييره الصور واتخاذه الاشكال. فما دام قلم القدر مهيمناً على جميع ذوي الحياة، فلاشك ان تاريخ حياة الانسان - الذي هو اكمل ثمرة من ثمرات العالم وخليفة الارض الحامل للامانة الكبرى - اكثر انقياداً لقانون القدر من اي شئ آخر.
فان قال:
ان القدر قد كبّلنا وسلب حريتنا، الا ترى ان الايمان بالقدر يورث ثقلاً على القلب ويولد ضيقاً في الروح، وهما المشتاقان الى الانبساط والجولان؟
والجواب: كلا. حاشَ لله! فكما ان القدر لا يورث ضيقاً، فانه يمنح خفة بلا نهاية وراحة بلا غاية وسروراً ونوراً يحقق الأمن والامان والروح والريحان؛ لأن الانسان إن لم يؤمن بالقدر يضطر لأن يحمل ثقلاً بقدر الدنيا على كاهل روحه الضعيف ضمن دائرة ضيقة وحرية جزئية وتحرر مؤقت، لأن الانسان له علاقات مع الكائنات قاطبة، وله مقاصد ومطالب لا تنتهيان الاّ ان قدرته وارادته وحريته لا تكفي لإيفاء واحدٍ من مليون من تلك المطالب والمقاصد، ومن هنا يفهم مدى ما يقاسيه الانسان من ثقل معنوي في عدم الايمان بالقدر، وكم هو مخيف وموحش.
بينما الايمان بالقدر يحمل الانسان على أن يضع جميع تلك الاثقال في سفينة القدر، مما يمنحه راحة تامة، اذ ينفتح امام الروح والقلب ميدان تجوال واسع، فيسيران في طريق كمالاتهما بحرية تامة. بيد أن