اعلم! أن القرآن يبحث عن مسائل عظيمة ويدعو القلوب الى الايمان بها، وعن حقائق دقيقة ويدعو العقول الى معرفتها. فلابدَّ لتقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة من التكرار في صور مختلفة وأساليب متنوعة.
اعلم! ان لكل آيةٍ ظهراً وبطناً وحدّاً ومَطلعاً، ولكل قصةٍ وجوهاً وأحكاماً وفوائد ومقاصد، فتُذكر في موضعٍ لوجهٍ، وفي آخر لأخرى، وفي سورةٍ لمقصدٍ وفي اُخرى لآخر وهكذا. فعلى هذا لا تكرار إلاّ في الصورة.
اما إجمال القرآن الكريم بعض المسائل الكونية وإبهامه في بعض آخر فهو لمعة اعجاز ساطع وليس كما توهمه أهلُ الألحاد من قصور ومدار نقد.
فإن قلت:
لأي شئ لا يبحث القرآن عن الكائنات كما يبحث عنها فن الحكمة والفلسفة؟ فَيَدع بعض المسائل مجملاً ويذكر أخرى ذكراً ينسجم مع شعور العوام وافكارهم فلا يمسّها بأذى ولا يرهقها بل يذكرها سلساً بسيطاً في الظاهر؟
نقول جواباً:
لأن الفلسفة عَدِلتْ عن طريق الحقيقة وضلَّت عنها، وقد فهمتَ حتماً من الدروس والكلمات السابقة أن القرآن الكريم إنما يبحث عن الكائنات استطراداً، للاستدلال على ذات الله وصفاته واسمائه الحسنى، أي يُفهم معاني هذا الكتاب، كتاب الكون العظيم كي يعرِّف خالقه.
أي أن القرآن الكريم يستخدم الموجودات لخالقها لا لأنفسها. فضلاً عن أنه يخاطب الجمهور. اما علم الحكمة (الفلسفة) فينظر الى الموجودات لنفسها، ويخاطب اهل العلم والفلسفة.
وعلى هذا، فما دام القرآن يستخدم الموجودات دليلاً وبرهاناً، فمن شرط الدليل أن يكون ظاهراً وأظهرَ من النتيجة أمام نظر الجمهور.