فلأجل هذه الاسرار الدقيقة، قد يغرق السالكون في هذه السبيل، وقد يتعثرون ويتأذون، بل قد ينكصون على اعقابهم ويضلون الآخرين. فعلى سبيل المثال؛ هناك (السير الانفسي) و(السير الآفاقي) وهما مشربان ونهجان في الطريقة.
فالسير الانفسي يبدأ من النفس، ويصرف صاحب هذا السير نظره عن الخارج، ويحدق في القلب مخترقاً انانيته. ثم ينفذ منها ويفتح في القلب ومن القلب سبيلاً الى الحقيقة.. ومن هناك ينفذ الى الآفاق الكونية فيجدها منورة بنور قلبه، فيصل سريعاً، لان الحقيقة التي شاهدها في دائرة النفس يراها بمقياس اكبر في الآفاق. واغلب طرق المجاهدة الخفية تسير وفق هذه السبيل.
واهم اسس هذا السلوك هو كسر شوكة الانانية وتحطيمها، وترك الهوى واماتة النفس.
اما النهج الثاني فيبدأ من الآفاق، ويشاهد صاحب هذا النهج تجليات اسماء الله الحسنى، وصفاته الجليلة في مظاهر تلك الدائرة الافاقية الكونية الواسعة ثم ينفذ الى دائرة النفس، فيرى انوار تلك التجليات بمقاييس مصغرة في آفاق كونه القلبي، فيفتح في هذا القلب اقرب طريق اليه تعالى، ويشاهد ان القلب حقا مرآة الصمد. فيصل الى مقصوده، ومنتهى امله.
وهكذا ففي المشرب الاول ان عجز السالك عن قتل النفس الامارة، ولم يتمكن من تحطيم الانانية بترك الهوى، فانه يسقط من مقام الشكر الى موقع الفخر، ومنه يتردى الى الغرور، واذا ما اقترن هذا بما يشبه السكر الناشئ من انجذاب آت من المحبة، فسوف يصدر عنه دعاوى اكبر من حده، واعظم من طوقه، تلك التي يطلق عليها (الشطحات). فيضر نفسه ويكون سبباً في الاضرار بالاخرين.
ان مثل صاحب الشطحات كمثل ضابط صغير برتبة ملازم. تستخفه نشوة القيادة واذواقها في محيط دائرته الصغرى، فيتخيل نفسه في لحظة انتشاء وكأنه المشير الذي يقود الفيالق والجحافل،